(3 - قضاء الصوم )

 (6 - كتاب الصيام)
  (3 - قضاء الصوم:)

[ من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء ] :
(يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي) كالمسافر والمريض، وقد صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة؛ وقد تقدم ذكره؛ والنفساء مثلها.

[ الفطر للمسافر رخصة ] :
(والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف، أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة) ، 

الأحاديث في ذلك كثيرة:
منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "؛ لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر؛ وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب؛ فإنه عند أبي داود، والحاكم - وصححه -: أنه قال: ربما صادفني هذا الشهر - يعني: رمضان -:

وأما حديث: أنه قيل له صلى الله عليه وسلم: إن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفاره، فقال: " أولئك العصاة ": فذاك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أمرهم بالإفطار في ذلك اليوم بخصوصه، فسماهم عصاة؛ لمخالفة أمره، لا لمجرد الصوم في السفر.

وأما حديث: " ليس من البر الصيام في السفر " - وهو متفق عليه -: ففي رواية زادها النسائي في هذا الحديث: " عليكم برخص الله التي رخص لكم؛ فاقبلوا " (1) ؛ فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزيمة، وهو المطلوب.

وأما ما روي بلفظ: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ": فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف، ولا حجة في ذلك.

وفي " الصحيحين " من حديث أنس: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.

وأخرج مسلم وغيره (2) عن حمزة بن عمرو الأسلمي: أنه قال: يا رسول الله {أجد مني قوة على الصوم، فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله - تعالى -، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه ".

وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا؟} "، فقالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ".

وأخرج مسلم (3) ، وأحمد، وأبو داود من حديث أبي سعيد، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم "، فكانت رخصة؛ فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: " إنكم مصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم؛ فأفطروا "، فكانت عزيمة، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر.

وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر: الجمهور.

وروي عن بعض الظاهرية - 

وهو محكي عن أبي هريرة -: أن الفطر في السفر واجب، وأن الصوم لا يجزئ.
والمراد ب (نحو المسافر) : الحبلى والمرضع؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي - من حديث أنس بن مالك الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله - عز وجل - وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم ".

[ من مات وعليه صوم صام عنه وليه ] :
(ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "؛ وقد زاد البزار لفظ: " إن شاء ".

قال في " مجمع الزوائد ": " وإسناده حسن " (4) .

وبه قال أصحاب الحديث، وبعض الشافعية، وأبو ثور، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل.

قال البيهقي في " الخلافيات ": " هذه السنة ثابتة، لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها ".

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه.

وقال في " الحجة ": ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه " وقوله فيه أيضا: " فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا "؛ إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئا.

قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (5) : " وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "، فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقالت: يصام عنه النذر والفرض.
وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يصام عنه نذر ولا فرض.
وفصلت طائفة، فقالت: يصام النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه، والإمام أحمد وأصحابه؛ وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة؛ فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يسلم أحد عن أحد؛ فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه، ولا يزكي عنه؛ إلا إذا كان معذورا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر، فأما المفطر من غير عذر أصلا (6) ؛ فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله - تعالى - التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض الله - تعالى - التي فرط فيها حتى مات، والله - تعالى - أعلم.

أقول: الظاهر - والله أعلم - أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم، سواء أوصى أو لم يوص، كما هو مدلول الحديث، ومن زعم خلاف ذلك؛ فليأت بحجة تدفعه (7) .

[يكفّر الكبير العاجز عن الأداء والقضاء] :
(والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين) : 
لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.

وأخرج هذا الحديث أحمد، وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم؛ وزاد:
ثم أنزل الله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.

وأخرج البخاري عن ابن عباس، أنه قال: ليست هذه الآية منسوخة: هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.

وأخرج أبو داود، عن ابن عباس، أنه قال: أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا؛ ويطعما كل يوم مسكينا.

وأخرج الدارقطني، والحاكم - وصححاه - عن ابن عباس، أنه قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليه.

وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن، مع ما فيه من الإشعار بالرفع؛ فكان ذلك دليلا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم.

أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك؛ لأن قوله - تعالى -: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ إن كانت منسوخة - كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم: أنها كانت في أول الإسلام، فكان من أراد أن يفطر يفتدي؛ حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله - تعالى - {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ،

ومثل ذلك روي عن معاذ ابن جبل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، 
ومثله عن ابن عمر؛ أخرجه البخاري -:

فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف.

وإن كانت محكمة - كما رواه أبو داود عن ابن عباس -: فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقا غير معذور، ووجوب الفدية عليه، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون.

وأما قول ابن عباس المتقدم: فكلام غير مناسب لمعنى الآية؛ لأنها في المطيقين، لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أُثبتت للحبلى والمرضع، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما.

فعلى كل حال؛ ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه، وهو محل النزاع، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله، ولا في سنة رسوله: فليس في غيرهما أيضا ما يدل على ذلك، فالحق عدم وجوب الإطعام، وقد ذهب إليه جماعة من السلف؛ منهم: مالك، وأبو ثور، وداود.

وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان - وعليه رمضان أو بعضه، ولم يقضه -؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء صح رفعه، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم، وليس بحجة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدا من عباده، والبراءة الأصلية مستصحبة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، وقد ذهب إلى هذا النخعي؛ وأبو حنيفة، وأصحابه.

وأما التفريق في قضاء رمضان: فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قضاء رمضان؟ فقال:
" إن شاء فرقه، وإن شاء تابعه "؛ وفي إسناده سفيان بن بشر؛ وقد ضعفه بعضهم.

وقال ابن الجوزي: ما علمنا أحدا طعن فيه، ثم صحح الحديث.

ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير: قوله - تعالى -: {فعدة من أيام أخر} ؛ وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعا ومتفرقا؛ لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة، والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف.

وأما ما يروى من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان عليه صوم من رمضان فليسرده، ولا يقطعه " - كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة -: ففي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، وقد ضعفه جماعة من الأئمة؛ وقال البيهقي: لا يصح، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن.

وأما ابن القطان فقال: لم يأت من ضعفه بحجة (8) . انتهى.

ولكنه - مع ذلك - لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية، فضلا عما عضدها.
_____________

(1) هذه الزيادة رواها أيضا الشافعي، وقال ابن القطان: " إسنادها حسن متصل ". (ش)
(2) • انظر " التعليقات الجياد " (4 / 16) . (ن)
(3) • انظر تخريجه منا في " التعليقات الجياد " (4 / 14) . (ن)

(4) • قلت: وليس كذلك؛ لأنه تفرد بها ابن لهيعة - كما في " الفتح " (4 / 157) -، وقد صرح بضعفها في " التلخيص "، فقال (6 / 457) : " وهي ضعيفة؛ لأنها من طريق ابن لهيعة ".
وقوله: " صام "؛ خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم، وهو للوجوب عند بعض أهل الظاهر - خلافا للجمهور -، وإلى ذلك ذهب الشارح - رحمه الله -. (ن)

(5) (3 / 554) . (ن)

(6) • فإذا كان المفطر لعذر شرعي - كمرض -؛ أفلا يصوم عنه وليه؟ الظاهر من كلام ابن القيم أنه يصوم؛ وهو الأقرب إلى عموم الحديث، والله أعلم. (ن)

قلت: وانظر في تفصيل المسألة - هذه وغيرها - كلام شيخنا في " تمام المنة " (ص 427 - 428) ، و " أحكام الجنائز " (ص 213 - 216 - المعارف) .

(7) سياق الأحاديث الواردة في الصيام عن الميت؛ يدل على إباحة ذلك للولي برا بالميت، لا وجوبا على الولي.
ويقوي هذا الظاهر رواية البزار التي ذكرها الشارح، وفيها زيادة: " إن شاء "، ولم يرد في شيء من السنة ما يدل على الوجوب، فمن ادعاه طولب بالدليل؛ لأن الأصل براءة الذمة، وأن المكلف غير ملزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح، والله أعلم. (ش)

(8) قال ابن القطان: " والحديث حسن ".
وقال ابن حجر: " قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه؛ أنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن "؛ نقله الشوكاني (جزء 4 ص 317 في " نيل الأوطار ") .
وعبد الرحمن هذا؛ قال أحمد: " ليس به بأس ".
قال الذهبي: " ومن مناكيره: عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: " من كان عليه صوم رمضان؛ فليسرده ولا يقطعه "؛ أخرجه الدارقطني " اه. (ش)

_______________

التعليقات الرضية علي الروضة الندية
بقلم العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالي
المكتبةالشاملة




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة