باب النجاسات

(باب النجاسات)
(فصل)

( [تعريف النجاسة] :)
(والنجاسات) : جمع نجاسة، وهي: كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه، ويغسلون الثياب إذا أصابها؛ كالعَذِرة والبول.

( [أنواع النجاسات] :)

(1 -[بول الآدمي وغائطه] :)
(هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله) بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك، بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية، كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال.
أما الغائط: فكما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى؛ فإن التراب له طهور "؛ وفي لفظ: " إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطورهما التراب ".
رواهما أبو داود - رحمه الله -، وابن السكن، والحاكم، والبيهقي.
وقد اختُلف فيه على الأوزاعي (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي سعيد: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض، ثم ليصلّ فيهما ".
وقد اختُلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في " العلل " الموصول (2) .
وأخرج أهل " السنن " عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: " يطهِّره ما بعده " (3) .
وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه.
وكذلك عن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي (4) - أيضا -.
فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يُخرجه عن كونه نجساً بالضرورة؛ إذ اختلاف وجه التطهير لا يُخرج النجس عن كونه نجساً.
وأما التخفيف في تطهير البول؛ فكما ثبت أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر بأن يُراق على بول الأعرابي ذَنوب (5) من ماء.
وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس - رضي الله عنهما -.

(2 -[طهارة بول ما يؤكل لحمه] :)
وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال؛ فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها، والأدلة مختلفة:
فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل؛ فإنه ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر العُرَنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل.
ومن ذلك حديث: " لا بأس ببول ما يؤكل لحمه "؛ وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه -؛ والبراء رضي الله عنه، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة (6) .
وورد ما يدل على نجاسة الرَّوث: ما أخرجه البخاري (7) وغيره: أنه قال [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها رِكْس "؛ والركس النجس.
وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير.
ولكن زاد ابن خزيمة في رواية: " إنها ركس؛ إنها روثة حمار ".
ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة؛ لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي.
وحديث الروثة لا يستلزم التعميم.
وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الاعتبار؛ لأنه من رواية ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، والأول: مجمع على تركه، والثاني: مجمع على ضعفه؛ فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم (8) .
واحتجوا بإذنه [صلى الله عليه وسلم] بالصلاة في مرابض الغنم، وبإذنه بشرب أبوال الإبل، وهما صحيحان.
ولا حكم للمعارضة بنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلِّي (9) ، فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها،
كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة، لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة؛ فإن مثل ذلك لا يُسوِّغ مباشرة ما ليس بطاهر.

(3 -[روث الحيوانات] :)
فالحق الحقيق بالقبول: الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية - وهو بول الآدمي وغائطه -، وأما ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته - كالروثة -؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشيء نجساً من دون دليل؛ فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى، ولا يحل إلا بعد قيام الحجة.
قال الماتن - رحمه الله تعالى -: " ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه طاهر؛ لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقول على الله - تعالى - بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة ".

(4 -[نجاسة بول الرضيع] :)
(إلا الذكر الرضيع) : لحديث: " يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام "، أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح - خادم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]-، وصححه الحاكم.
وأخرج أحمد، والترمذي - وحسنه -، من حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل ".
وأخرجه - أيضا - ابن ماجه، وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً (10) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني من حديث أم الفضل لُبابة بنت الحارث، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره، حتى أغسله، فقال: " إنما يُنضح من بول الذكر، ويُغسل من بول الأنثى ".
وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنها أتت بابن لها صغير لم - يأكل الطعام - إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله.
وفي " صحيح البخاري " من حديث عائشة، قالت: أُتي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصبي يُحنِّكه، فبال عليه، فأتبعه الماء.
وفي " صحيح مسلم " عنها، قالت: كان يؤتى بالصبيان، فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله.
فهذا تصريح بأنه لم يغسله، فيكون إتباعه الماء مجرد النضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل.
وبالجملة: فالتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] بالقول بما هو الواجب في ذلك؛ هو الأوْلى بالاتِّباع؛ لكونه كلاماً مع أمته، فلا يعارضه ما وقع من فعله؛ على فرض أنه مخالف للقول.

( [أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع] :)
وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة؛ منهم: علي، وأم سلمة، والثوري، والأوزاعي، والنخعي، وداود، وابن وهب، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق ومالك - في رواية -.
وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه.
وذهب بعض أهل العلم - وقد حُكي عن مالك، والشافعي، والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما، وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية.
وذهب الحنفية - رحمهم الله -، وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل، وهذا المذهب كالذي قبله - في مخالفة الأدلة -.
وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام.
وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية: فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.
وقد شدّد (11) ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر - أي ذكر كان - {وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً، بلفظ -: " بول الغلام الرضيع يُنضَح "، والواجب حمل المطلق على المقيد.
قال في " الحُجّة ": " قد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي، وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس ".
قلت: قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يُنضح من بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل من بول الجارية ".
فسّره البغوي بأن بول الصبي نجس، غير أنه يُكتفى فيه بالرش، وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه، فيطهّر من غير مَرْس ولا دلك.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: يغسل منهما سواء.
ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -: إن المراد بالنضح الغسل الخفيف، وبالغسل المرس والدلك.
وأصل المسألة: أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها، وبول الجارية أغلظ وأنتن، فاحتيج فيه إلى زيادة المرس. كذا في " المُسوى ".
وأقول: أحاديث التخصيص ههنا صحيحة، لا شك في ذلك ولا ريب، فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف، الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة؟}
وهذا كلام عاطل الجِيد عن الفائدة بمرة؛ لأن هذا المعنى قد استُفيد من العام، ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم - وكان أفصح العرب -، بما يلحقه بكلام من هو من العيّ بمنزلة تُوقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة.
وقد ذكر في " النهاية " ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل.
قلت: قد يَرِد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام، وههنا وقع مقابلاً للغسل، فكيف يصح تفسيره به؟ {
وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب؟} وإلا كان الكلام حشواً.
وإن كان استعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول؛ فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزيّة على غيره من علماء أمّته، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه.
وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الإنصاف، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم، فيردون كلامه [صلى الله عليه وسلم] إلى كلامهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإن لم يوافقهم فالقول ما قالت حَذام (12) .
فإن أنكرتَ هذا؛ فهات؛ أبِنْ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات المتعسفة، وردّ أحاديث التخصيص الصحيحة؟ {مع تسليمهم أن الخاص مقدم على العام، وأن يُبنى العام على الخاص}
وهذا مشتهر في الأصول اشتهار النهار.

(5 -[لُعاب الكلب] :)
(ولعاب كلب) : قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً ".
وثبت - أيضاً - عندهما وغيرهما مثله من حديث عبد الله بن مغفل، فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب؛ وهو المطلوب هنا.
والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف، وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً؛ لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل، وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب، كما وقع في أحاديث الباب في " الصحيحين " وغيرهما؛ فإنه ليس المقصود ههنا إلا إثبات كون اللعاب نجساً، لا بيان كيفية تطهيره، فلذلك موضع آخر.
والحاصل: أن الحق ما قضى به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من التسبيع والتتريب، وليس من شرط التعبد الاطِّلاع على علل الأحكام التي تعبَّدَنا الله بها - على ما هو الراجح -، وقد صح لنا الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة، ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة، سواء كان القول المخالف منسوباً إلى جميعهم أو إلى بعضهم، وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة، كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة.
ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصاف؛ ما يقع في كثير من المواطن - من جماعة - من ذلك عن الشريعة بمعزل، والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس؛ من دون سبب يقتضي ذلك - كما فيما نحن بصدده -، وفيما سلف في بول الصبي، وأشباه هذا ونظائره لا تحصى؛ والله المستعان.

(5 -[الرّوث] :)
(وروث) : الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها ركس "؛ والركس - في اللغة -: النجس؛ فالروثة نجس، وهو المطلوب.
وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير.

(6 -[دم الحيض] :)
(ودم حيض) : الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد، وأبي داود، والترمذي من حديث خولة بنت يسار، قالت: يا رسول الله {ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟ قال: " فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه " قالت: يا رسول الله} إن لم يخرج أثره؟ قال: " يكفيك الماء، ولا يضرك أثره ".
وفي إسناده ابن لهيعة (13) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ: " حُكّيه بضِلَع (14) واغسليه بماء وسِدْر ".
قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة (15) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما -، قالت: جاءت امرأة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض؛ فكيف تصنع؟ قال: " تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ".
فالأمر بغسل دم الحيض وحكّه بضِلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره، فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً.
وأما سائر الدماء؛ فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية. (16)
ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله - تعالى -: {فإنه رجس} إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة - من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير -؛ لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب؟ ! والظاهر رجوعه إلى الأقرب - وهو لحم الخنزير؛ - لإفراد الضمير، ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة، والدم الذي ليس بدم حيض، ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها، كما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها ".
ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية؛ فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة.

(7 -[لحم الخنزير] :)
(ولحم خنزير) : الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة.

( [الأدلة على طهارة المنِيّ] :)
(وفيما عدا ذلك خلاف) : وأما المني؛ فاحتجوا على نجاسته بأمور:
الأول: حديث عمار، وقد سلف عدم صلاحيته للاحتجاج.
والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة، وذلك لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً.
والثالث: بما ورد في المَذْي (17) من الأمر بغسل الفرج والأُنثيين.
ويجاب عنه: أنه إثبات لنجاسة المني بقياس؛ لأنهما متغايران، على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي؛ إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول، أو لأنه ليس بأصل للنسل.
ويلزم أن يطهُر بالنضح؛ لما ورد عند أبي داود، والترمذي - وصححه - من حديث سهل بن حُنَيْف بلفظ: " يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيثما ترى أنه (18) أصاب من ثوبك " (19) .
وأما الجواب عن حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لعائشة بفرك المني؛ بأن المراد به الفرك قبل الغسل، لا مجرد الفرك فقط! فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل.
وكان أقرب من هذا أن يجاب: بأن الفرك لم يكن بأمره [صلى الله عليه وسلم] ؛ إنما قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- كما في كتب الحديث -.
والأمر الرابع: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يغسل موضع المني من ثوبه؛ ويجاب عنه: بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة، مع احتمال أن يكون غسله تقذُّراً لما فيه من مخالفة النظافة.
وأما فرك عائشة لمنيِّه [صلى الله عليه وسلم] من ثوبه حال صلاته بأنه (20) لم يعلم بذلك: فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك، كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك.
وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشيء نجساً لا يُقبل إلا بدليل تقوم به الحجة؛ غير معارض بما هو أنهض أو مساوٍ؛ لأن الحكم بكون الشيء نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى.
وقد أوردت في " مِسك الختام شرح بلوغ المرام " حجج المختلفين، ورجّحت هناك ما رجّحت، وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله.
وفي " سُبُل السلام ": والحق أن الأصل الطهارة، والدليل على القائل بالنجاسة، فنحن باقون على الأصل.
وذهب الحنفية - رحمهم الله - إلى نجاسة المني كغيرهم، ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالخِرقة، أو الإذخرة؛ عملاً بالحديثين، وبين الفريقين القائلين بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي " شرح العمدة ". انتهى

( [الأصل في الأشياء الطهارة] :)
(والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) : لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله - تعالى - عنها، وأنها عفو؛ فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته؛ فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد، أو غلط في الاستدلال، كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله - تعالى -، زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان.
وهذا الزعم من أبطل الباطلات، فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام (21) ؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك، وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته، فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها " (22) ، ولو كان مجرد تحريم شيء مستلزماً لنجاسته؛ لكان مثل قوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية!

( [المسلم طاهر حياً وميتاً] :)
والمسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، كما ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] في " الصحيح "، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق (23) ، كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة.
فإن قلت: إذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس - كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير - فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} ؟} قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية.

( [نجاسة المشرك] :)
وهكذا قوله - تعالى: {إنما المشركون نجس} : لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين، كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم، والتوضؤ من آنيتهم والأكل فيها، وإنزالهم المسجد: كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية، بل قد ورد (24) البيان من الشارع لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة، فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء؛ إنما أنجاسهم على أنفسهم "، فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة، والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية.
وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته - ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه -: فلا شك أن يتعين العمل بالأرجح، فإن عورض بما يساويه؛ فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم، حتى يرد مورداً خالصاً عن شَوْب المعارضة، أو راجحاً على ما عارضه.
وبالجملة: فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع، ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية.
قال في " سبل السلام ": " والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها، وأما النجاسة فيلازمها التحريم فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب؛ وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً، إذا عرفت هذا: فتحريم الحُمُر والخمر - الذي دلت عليه النصوص - لا يلزم منه نجاستها، بل لا بد من دليل آخر عليه؛ وإلا بقيا على الأصول المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه ". انتهى.
وقد أوضح الماتن في مصنفاته: ك " شرح المنتقى " و " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام " هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره؛ فليراجع.

(فصل [تطهير النجاسات] )
( [الاقتصار على ما ورد في الشرع] :)
(ويطهر ما يتنجس بغسله) ؛ أي: بإسالة الماء عليه، ثم إن ورد فيه شيء عن الشارع؛ كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد، من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وتقدم - أيضا - ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب.
وبالجملة: فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره؛ كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره؛ فالواجب علينا إذهاب تلك العين.
(حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم) : لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أو طعمه - قد بقي فيه - جزء من العين، وإن لم يبق جرمها ولونها؛ إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الطعم.

( [تطهير النعل بالمسح] :)
(والنعل بالمسح) وكذلك الخف؛ لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة، والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة، فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك.
ثم إن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان، وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس: أوضح هذا المعنى إيضاحا ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال، فقال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر نعليه، فإن كان فيها خبث فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ".
ولفظ أحمد وأبي داود: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ".
فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك، فإنه - أولا - بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجودا محققا؛ فعلوا المسح بالأرض، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها.

( [تلبيس الشيطان على الموسوسين] :)
ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ما هو فيه نوعا من الجنون! فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة، حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر، مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة، فلا يزال في تعب ونصب ومزاولة، لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد؛ شرع في العضو الثاني ثم كذلك، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس، فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد من العصاة؛ لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات - كما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيمن تجاوزها -: " ... فقد أساء وتعدى وظلم "، فجمع له [صلى الله عليه وسلم] بين هذه الثلاثة أنواع، ثم لم يقنع منه بهذا، حتى صيره تاركا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وأخرج أهل " السنن "، وأحمد من حديث بريدة، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ".
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: " كان أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر؛ غير الصلاة ".
فانظر كيف صار هذا الموسوس - بنص رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- مسيئا متعديا ظالما كافرا (25) ، إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه، فهذا باعتبار ما له عند ربه.
وأما باعتبار ما له عند الخلق؛ فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن، ف {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} ، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرا ما يفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية، فلا يراح رائحة الجنة، كما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فيمن قتل نفسه (26) ، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل.
فمن كان جاهلا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو {وهو قد غسل ذلك العضو مئات} { ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلا مشروعا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك} فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة (27) دلكا فظيعا، فيشرع بالأنملة، ثم يدلك جزءا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثم يأخذ في الأخرى، ثم كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلا بعد مدة طويلة، ثم يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله، فيعود إليه، ثم كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه.
ومن كان عالما؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنه ممن أضله الله على علم، ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعبادة عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يستحي من الله؛ فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يستحي من الناس؛ فيردعه حياؤه عن التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان {وفي مثل هذا قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ".
والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل} والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب، والغراب الأبقع (28) .
ومن أنكر هذا فليجرب نفسه، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض، ثم يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟ {مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلدا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قوما لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه.
اللهم} أعذنا من نزعات الشيطان، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

( [التطهير بالاستحالة] :)
(والاستحالة مطهرة) ؛ أي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول - لونا وطعما وريحا -، كاستحالة العذرة رمادا.
وقد أوضحت ذلك في كتابي " دليل الطالب " فليراجع، وحققه الماتن في " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، وغيرهما.
(لعدم وجود الوصف المحكوم عليه) يعني: فقدْ فقدَ الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه، وهذا هو الحق.
والخلاف في ذلك معروف.

( [تطهير ما لا يمكن غسله] :)
(وما) كان (لا يمكن غسله) من المتنجسات كالأرض والبئر (ف) تطهيره (بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى) أي: لا يوجد (للنجاسة أثر) ؛ لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون؛ وأما مثل البول؛ فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء، فإن وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة - بالبول - طاهرة.
أقول: البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة: أن المطهر الكثير يطهر الأرض، وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة، وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن.
في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة، فصب عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت، والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير، ولكنها لا تطهر، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة ".
وعند الحنفية - رحمهم الله تعالى - الغسالة نجسة، والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة. انتهى.

( [الأصل في التطهير هو الماء] :)
(والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع) : لأن كون الأصل في التطهير هو الماء، قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد، بل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " يرشد إلى ما ذكرنا إرشادا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء - كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك -؛ كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، وذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر.
ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إن الماء يتعين في مثل ذلك.
ويرد على أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع.
___________________

(1) • وقد بيَّنت الخلاف المشار إليه في كتابي " صحيح سنن أبي داود " رقم (410) ؛ لكن الحديث صحيح، فقد رواه أبو داود أيضا من حديث عائشة بمعناه، وسنده صحيح، كما بينته هناك رقم (411) ، وحسَّنه المنذري في " مختصره ". (ن)

(2) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم، وكذلك صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي أيضا، وقد تكلمت على سند الحديث في " صحيح سنن أبي داود " رقم (658) ، وله فيه شاهد مرسل صحيح. (ن)

(3) • وهو حديث صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (407) . (ن)

(4) • لقد أبعد المصنف النُّجعة، فالحديث رواه أبو داود، وابن ماجة أيضا، وإسناده صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (408) . (ن)

(5) في الأصل (ذنوباً) وهو خطأ.
والذنوب: الدلو. (ش)

(6) بل كذبه أحمد بن حنبل. (ش)

(7) • في " صحيحه " (1 / 206 - 207) ، وكذا أحمد (رقم 3685) . (ن)

(8) هو حديث رواه الدارقطني، والبزار، والبيهقي وغيرهم؛ ولفظه: " إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء ".
قال الدارقطني: " لم يروه غير ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدّاً ".
وقال البيهقي: " هذا باطل لا أصل له؛ ثابت متهم بالوضع ".
انظر شرحنا على " التحقيق " في المسألة رقم (23) . (ش)

(9) • هذا التعليل لا أصل له في السنة، وإنما جاء فيها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خُلقت من الشياطين ".
رواه ابن ماجه، والطحاوي، وأحمد، والبيهقي، والطيالسي عن عبد الله بن مُغفَّل، وإسناده صحيح كما بينته في " الثمر المستطاب ".
وله شاهد من حديث البراء بسند صحيح كما بينته هناك؛ وفيه: " صلوا فيها - يعني: مرابض الغنم -؛ فإنها بركة "، وقد رواه الخطيب في " الموضح " (2 / 97) . (ن) .

(10) • قلت: وأخرجه أبو داود مرفوعاً أيضا، وسنده صحيح مرفوعاً وموقوفاً، وقد بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (401، 402) . (ن)

(11) قوله: " شدّد "؛ هكذا بالأصل مصلحاً {ولعله: " شذّ "؛ فليتأمل} (ش)

(12) من أمثال العرب المشهورة، والمراد عدم الحيْدَة عن كلامه [صلى الله عليه وسلم] .
(13) • قلت: لكن رواه عنه عبد الله بن وهب - أيضاً - عند البيهقي، وحديث ابن لهيعة إذا كان من رواية العبادلة عنه، وهم: ابن وهب، وابن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، فالحديث صحيح، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 389) . (ن) .

(14) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام؛ أي: بعود، والأصل فيه: الضلع - باللام الساكنة -: ضلع الجنب، وقيل للعود الذي فيه انحناء وعرض: ضلع؛ تشبيهاً بالضلع الذي هو واحد الأضلاع.
قاله في " اللسان ".
وقال ابن الأعرابي: الضلع ههنا: العود الذي فيه الاعوجاج.
وفي بعض الروايات: " بضلع " بفتح الصاد المهملة، وإسكان اللام -، وهو الحجر، وزعم ابن دقيق العيد أن الأول تصحيف! وهو خطأ. (ش) .

(15) • وقال الحافظ في " الفتح " (1 / 266) : " وإسناده حسن "، وهو قصور؛ فالسند صحيح لا علة فيه، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 388) مصححاً. (ن)

(16) هذا خطأ من المؤلف والشارح؛ فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم الحيض، والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس - ولو لم يأت لفظ صريح بذلك -، وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة. (ش) .

• قلت: وقد نقل القرطبي في " تفسيره " (2 / 221) اتفاق العلماء على نجاسة الدم.

قلت: وفيه نظر، فقد صح أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصابه من دمه، فقام وصلى وعليه الدم. أخرجه الطبراني. (ن)

(17) • كان اللائق ذكر المذْي في النجاسات المنصوصة عليها، لورود الأمر بغسله، كما يشير المؤلف نفسه إلى ذلك. (ن)

(18) أي المدى. (ش)

(19) • قلت: وسنده حسن كما بينته في " صحيح أبي داود " (رقم 204) . (ن)

(20) لعله: وأنه. (ش)

(21) هي أنواع الدلالات المنطقية.

(22) هذا فهم خطأ، ولم يقصد الشارع بالحصر - إذا سلمنا أن " إنما " تدل على الحصر - أنها ليست نجسة؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا نجاسة الميت بكل أجزائها مما علموه من الشريعة، فأعلمهم أن المحرم أكلها، وأما الانتفاع بجلدها؛ فجائز بعد دباغه؛ ولذلك ورد مرفوعاً من حديث ابن عباس: " إذا دُبغ الإهاب فقد طهر " رواه مسلم.
ورواه الحاكم بلفظ: " دباغه يذهب بخبثه - أو نجسه أو رجسه - "، وهو صحيح لا علة له، وله ألفاظ أخرى تدل على أن الميتة نجسة، انظر شرحنا على " التحقيق " لابن الجوزي مسألة رقم (17) . (ش)

(23) • في نقل هذا الاتفاق نظر؛ فقد ذهب ابن حزم إلى تنجيس المذكورات في الآية. (ن)

(24) • قلت: في الجزم بورود هذا الحديث نظر قوي، لأنه من رواية الحسن البصري مرسلاً، وأخرجه أبو داود في " المراسيل "، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق.
ومراسيل الحسن ضعيفة، قالوا: إنها كالريح، وروي عنه، عن عثمان بن أبي العاص مسنداً، دون قوله: " وليس على الأرض من أنجاس القوم شيء "، وزاد: " ليكون أرق لقلوبهم "، وهو مخرج في " ضعيف أبي داود " (529) . (ن)

قلت: وانظر " مصنف عبد الرزاق " (1650) ، و " نصب الراية " (4 / 270) ، و " البناية شرح الهداية " (4 / 274 - الطبعة الهندية) ، و " شرح فتح القدير " (8 / 496) .

(25) انظر رسالة " حكم تارك الصلاة " لشيخنا الألباني - بتعليقي وتقديمي.

(26) قارن ب " غاية المرام " (453) ، و " صحيح الجامع " (6457) .

(27) لعله: الحبة (ش) .

(28) أمثلة تقال لندرة الشيماء.

_________
كتاب التعليقات الرضية علي الروضة الندية
بقلم العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالي 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة