الفصل الأول: آداب الطالب في نفسه
الفصل الأول: آداب الطالب في نفسه
أولا: العلمُ عبادة: أصل الأصولِ في هذه الحلية بل ولكل أمر مطلوبٍ علمكَ بأن العلم عبادة، قال بعض العلماء: العلمُ صلاةُ السر وعبادة القلب
العلم عبادة لا شك نعم، بل هو من أجل العبادات وأفضل العبادات حتى إن الله تعالى جعله في كتابه قسيمًا للجهاد في سبيل الله الجهاد المسلَّح فقال جل وعلا (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ليتفقهوا: يعني بذلك الطائفة القاعدة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم ينذرون، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقههُ في الدين" فإذا رزقك الله الفقه في دينك والفقه هنا يعنى به العلم بالشرع فيدخل في علم العقائد والتوحيد وغير ذلك فإذا رأيت أن الله منّ عليك بهذا فاستبشر خيرًا لأن الله تعالى أراد بك خيرًا،
وقال الإمام أحمد: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قالوا وكيف تصلح النية يا أبا عبد الله؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره.
وعليه فإن شرط العبادة أولا: إخلاص النية لله سبحانه وتعالى لقوله الآية ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) وفي حديث الفرد المشهور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الأعمال بالنيات " الحديث فإن فقد العلم إخلاص النية انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات ولا شيء يحطمُ العلم مثل الرياء، رياء الشرك أو رياء إخلاص، ومثل التسميع بأن يقول مسمعًا علمتُ وحفظت، وعليه فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب.
كذلك إذا قال قائل بم يكون الإخلاص في طلب العلم ؟ قلنا الإخلاص في طلب العلم يكون في أمور:
الأمر الأول: أن تنوي بذلك امتثال أمر الله لأن الله تعالى أمر بذلك قال ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) وحث سبحانه وتعالى على العلم، والحث على الشيء يسلتزم محبته والرضا به والأمر به.
ثانيًا: أن تنوي بذلك حفظ شريعة الله لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم، والحفظ بالصدور ويكون كذلك بالكتابة كتابة الكتب.
والثالث: تنوي بذلك حماية الشريعة والدفاع عنها لأنه لولا العلماء ما حميت الشريعة ولا دافع عنها أحد، ولهذا نجد مثلا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم من أهل العلم الذين تصدَّوا لأهل البدع وبيَّنوا بطلان بدعهم نرى أنهم حصلوا على خير كثير.
والرابع: أن تنوي بذلك اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنك لا يمكن أن تتبع شريعته حتى تعلم هذه الشريعة.
هذه أمور أربعة كلها يتضمنها قولنا أنه يجب الإخلاص لله في طلب العلم.
وعليه، فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب، كحب الظهور والتفوق على الأقران وجعله سلمًا لأغراضٍ وأعراض من جاهٍ أو مالٍ أو تعظيم أو سمعة أو طلب محمدة أو صرف وجوه الناس إليك فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية أفسدتها وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمي نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى بل وتحمي الحمى، وللعلماء في هذا أقوال...
هذا صحيح، ما قاله من وجوب حماية النية من هذه المقاصد السيئة فهو صحيح، ومن طلب علمًا وهو مما يبتغى به وجه الله لا يريد إلا أن ينال عرضا من الدنيا لم يجد رائحة الجنة نسأل الله العافية، ثم إن هذه المحمدة والجاه والتعظيم وانصراف وجوه الناس إليك ستجده إذا حصلت العلم حتى وإن كانت نيتك سليمة بل إذا كانت نيتك سليمة فهو أقرب إلى حصول هذا لك.
تحمي الحمى: تحمي النية وتحمي ما حولها .. حمى الشيء: ما حوله، كما في الحديث: " ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه "
وللعلماءِ في هذا أقوالٌ ومواقفٌ، بينتُ طرفًا منها في المبحث الأول من كتاب التعالم، ويزادُ عليه نهي العلماء عن الطبوليات وهي المسائل التي يرادُ بها الشهرة.
الطُّبوليات هي المسائل التي يراد بها الشهرة، لماذا سميت الطبوليات؟ لأنها مثل الطبل لها صوت ورنين فهذا إذا جاء في مسألة غريبة على الناس واشتهرت عنه كأنها صوت طبل فهذه يسمونها الطبوليات.
ولم أسمع بهذا لكن وجهها واضح.
وقد قيل زلةُ: العالمِ مضروبٌ لها الطبل، وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال: كنتُ أوتيتُ فهم القرآن فلمَّا قبِلتُ الصُّرَّةَ سُلبتُه، فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب
هذا سفيان يقول كنت أوتيت فهم القرآن فلما قبلت الصرة سلبته، الصرة يعني من السلطان، لما أعطاه سلب فهم القرآن، وهؤلاء هم الذين يدركون الأمور، ولهذا يتحرز السلف من عطايا السلطان ويقولون إنهم لا يعطوننا إلا ليشتروا ديننا بدنياهم، فتجدهم لا يقبلونه، ثم إن السلاطين فيما سبق قد تكون أموالهم مأخوذة من غير حلها فيتورعون عنها أيضا من هذه الناحية، ومن المعلوم أنه لا يجوز للعالم أن يقبل هدية السلطان إذا كان السلطان يريد أن تكون هذه العطية مطيةً له يركبها متى شاء بالنسبة لهذا العالم، أما إذا كانت أموال السلطان نزيهة ولم يكن يقبل الهدية منه ليبيع دينه بها فقد قال النبي صلى عليه وعلى آله وسلم لعمر:" ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشهد ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك "، وغرض سفيان رحمه الله تعالى من ذلك "التحذير" من هذا وتبكيت نفسه على ما صنع.
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب، بأن تكون مع بذل الجهد في الإخلاص شديد الخوف من نواقضه عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه. ويؤثر عن سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى قوله: ( ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي )
وفي معنى ذلك ما أدري هل هو قول آخر أو نقل بالمعنى، يقول ( ما عالجت نفسي على شيءٍ أشد من معالجتها على الإخلاص ) وهذا بمعنى كلام سفيان لأن الإخلاص شديد، ولهذا من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه فإنه يدخل الجنة وهو أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده يا أبي مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء وإذا وعظهم غيرك لا يبكون ؟ فقال: يا بني ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة. وفقك الله لرشدك آمين.
الله أكبر هذا مثلٌ عظيم، النائحة الثكلى يعني التي فقدت ولدها هذه تبكي بكاءً من القلب، والنائحة المستأجرة ما يؤثر نوحها ولا بكاؤها لأنها تصطنع البكاء، ولكن مثل هذا الكلام الذي يرد عن السلف يجب أن يحسن الظن بهم وأنهم لا يريدون بذلك مدح أنفسهم وإنما يريدون بذلك حث الناس على إخلاص النية والبعد عن الرياء وما أشبه ذلك وإلا لكان هذا تزكيةً للنفس واضحة والله عز وجل يقول ( لا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) لكن السلف رحمهم الله لعلمنا بمقامهم وإخلاصهم يجب أن نحمل ما ورد عنهم مما يحتمل هذا المعنى الفاسد أن نحمله على المعنى الصحيح.
الشرط الثاني: الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة: محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحقيقها بتمحض المتابعة وقفو الأثر للمعصوم. قال الله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)
لا شك أن المحبة لها أثر عظيم في الدفع والمنع، إذ أن المحب يسعى غاية جهده في الوصول إلى المحبوب فيطلب ما يرضيه وما يقربه منه، ويسعى غاية جهده في اجتناب ما يكرهه محبوبه ويبتعد عنه ولهذا ذكر ابن القيم في روضة المحبين أن كل الحركات مبنية على المحبة كل حركات الإنسان، وهذا صحيح لأن الإرادة لا تقع من شخص عاقل إلا لشيء يرجو نفعه أو يدفع ضرره، وكل إنسان يحب ما ينفعه، ويكره ما يضره، فالمحبة في الواقع هي القائد والسائق إلى الله عز وجل تقود الإنسان وتسوقه، وانظر إلى الذين كرهوا ما أنزل الله، كيفَ قال الله: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه فَأَحْبَطَ أَعْمَالهم )[محمد: 9] صارت نتيجتهم الكفر، لأنهم كرهوا ما أنزل الله،
فالمحبة كما قال الشيخ هي: الجامعة لخيري الدنيا والآخرة.
أما محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فإنها تحملك على متابعته ظاهراً وباطناً، لأن الحبيب يُقلِّد محبوبه حتى في أمور الدنيا، تجده مثلاً يقلده في اللباس، في الكلام، حتى في الخط، نحن نذكر بعض الطلبة في زماننا كانوا يُقلِّدون الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في خطه، مع أن خطه- رحمه الله- ضعيف، ما تقدر تقرأه، لكن من شدة محبتهم له، فالإنسان كلما أحب شخصاً حاول أن يكون مثله في خصاله. فإذا أحببت النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذه المحبة سوف تقودك إلى اتباعه صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر الآية التي يسميها علماء السلف آية المحنة، يعني الامتحان، لأن قوماً ادَّعوا أنهم يحبون الله فقال الله تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) [ آل عمران: 31]
أين الجواب؟
الجواب المتوقع: فاتبعوني تصْدُقوا في دعواكم، لأن الشرط والمشروط، إن كنتم تحبون الله فاتبعوني تصدقوا في دعواكم، لكن جاء الجواب: فاتبعوني يحببكم الله، إشارة إلى أن الشأن كل الشأن أن يحبك الله عز وجل، هذا هو الثمرة، وهو المقصود، لا أن تحب الله، لأن كل إنسان يدَّعي ذلك وربما يكون ظاهرك محبة الله، لكن في قلبك شيء، لا يقتضي أن الله يحبك، فتبقى غير حاصل على الثمرة.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهذا أَصْلُ هذِهِ (الْحِلْيَةِ) وَيَقَعان مِنْها مَوْقِعَ التّاجِ مِنَ الحُلَّةِ، فيا أَيُّها الطَّلاب! ها أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَرَبَّعْتُمِ للدَّرْسِ وَتَعَلَقْتُمْ بَأَنَفَسِ عِلْقٍ (طَلَبِ الْعِلْمِ)؛ فَأُوَصّيكُمْ وَنَفْسيَ بِتَقْوى الله تعَالى في السِّرِ وَالْعَلانِيَّةِ؛ فَهِيَ الْعُدَّة، وَهِيَ مَهْبِطَ الْفَضائلِ، وَمُتَنَزَّلِ الْمَحامِدَ، وَهيَ مَبْعَثُ القُوَّةِ، وَمِعْراجُ السُّمُو، والرّابِط الْوَثيق عَلى الْقُلوبِ عَنِ الْفِتَنِ، فَلا تُفَرِّطوا.
صدق- رحمه الله وعفا عنه- ويدل على ذلك قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال: 29] تفرِّقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين الطاعة والمعصية، وبين أولياء الله وأعداء الله.. إلى غير ذلك. وتارة يحصل هذا الفرقان بوسيلة العلم، يفتح الله على الإنسان من العلوم، وييسر له تحصيلها أكثر ممن لا يتقي الله. وتارة يحصل له هذا الفرقان بما يلقيه الله تعالى في قلبه من الفراسة. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن يكن فيكم محدثون فعمر"، فالله تعالى يجعل لمن اتقاه فراسة يتفرس بها. فتكون موافقةً للصواب.
فقوله تعالى: "يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا" يشمل الفرقان بوسائل العلم والتعلم، والفرقان بوسائل الفراسة والإلهام أن الله تعالى يُلهم الإنسان التقي ما لا يُلهم غيره، وربما يظهر لك هذا في مجراك في طلب العلم، تمر بك أيام تجد قلبك خاشعاً منيباً إلى الله، مقبلاً عليه، متقياً له، فيفتح الله عليك مفاتح ومعالم كثيرة، ويمر بك غفلة ينغلقُ قلبك، وكل هذا تحقيق لقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [الأنفال: 29]
إذا غفر الله للعبد أيضاً فتح عليه أبواب المعرفة قال الله تعالى: (إنا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا واسْتَغْفِرِ اللهَ) [النساء: 105- 106]
ولهذا قال بعض العلماء: ينبغي للإنسان إذا اسْتُفتي أن يقدِّم استغفار الله حتى يبين له الحق، لأن الله قال: (لِتَحْكُمَ)، ثم قال: (واسْتَغْفِرِ اللهَ ).
2- كُنْ عَلى جادَّة السَّلَفِ الصّالِحِ: كُنْ سَلَفِياً عَلى الجادَّة؛ طَريق السَّلَفِ الصّالِحِ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ الله عَنْهُمْ، فَمَنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ قَفا أَثَرَهُمْ في جَميعِ أَبْوابِ الدّينِ؛ مِنَ التَّوْحيدِ، وَالْعِباداتِ، وَنَحْوِها، مُتَمَيِّزاً بِالتْزامِ آثارِ رَسولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْظيفِ السُّنَنِ عَلى نَفْسِكَ، وَتَرْكِ الْجِدالَ، وَالْمِراءَ، وَالْخَوْضِ في عِلْمِ الْكَلامِ، وَما يَجْلبُ الآثامَ، وَيَصُدُّ عَنِ الشَّرْعِ.
بهذا من أهم ما يكون، أن الإنسان يكون على طريقة السلف الصالح في جميع أبواب الدين، من التوحيد والعبادات والمعاملات وغيرها.
كذلك أيضا يترك الجدال والمراء، لأن الجدال والمراء هو الباب الذي يقفل طريق الصواب، فإن الجدال والمراء يحمل المرء على أن يتكلم وينتصر لنفسه فقط، حتى لو بان له الحق تجده: إما أن ينكره، وإما أن يؤولِّه على وجه مستكره انتصاراً لنفسه وإرغاماً لخصمه على الأخذ بقوله.
فإذا رأيت من أخيك جدالاً ومراءً، بحيث يكون الحق واضحاً ولكنه لم يتبعه ففر منه فرارك من الأسد، يعني بحيث يكون الحق واضحا ولكنه لم يتبعه ففر منه فرارك من الأسد، وقل: ليس عندي إلا هذا، اتركه.
وكذلك الخوض في علم الكلام مضيعة للوقت، لأنه يخوض في أشياء من أوضح الأشياء.
مرَّ عليَّ اليوم في دراسة بعض الطلبة، يقول: ما هو العقل؟ عرِّفه لي لغةً واصطلاحاً وعرفاً وشرعاً؟!!
هذا ماله تعريف، لكن علم الكلام أدخل علينا الأشياء هذه، يجد الواحد مرة: إيش العقل هذا؟ سبحان الله!!
الظاهر أن الذي يقعد يفكر في تعريف العقل صار مجنوناً لأن هذا أمر واضح ما يحتاج إلى تعريف، لكن هؤلاء – أهل الكلام- صَدّوا الناس عن الحق وعن المنهج السلفي البسيط بما يوردونه من الشبهات والتعريفات والحدود وغيرها.
وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في الرد على المنطقيين، يتبين لك الأمر، أو في (نقض المنطق) وهو مختصر وأوضح لطالب العلم، يتبين لك ما هم عليه من الضلال، ما الذي حمل علماء جهابذة على أن يسلكوا باب التأويل في باب الصفات؟! إلا علم الكلام.
لو كان كذا لكان كذا، لو كان مستوٍ على العرش حقيقة لزم أن يكون محدوداً لماذا؟ لأن العرش محدود!! لو كان يُرى لزم أن يكون في جهة، ولو كان في جهة لكان جسماً، وهلم جرَّى.. يعطونك من هذا الكلام الذي يضيعك، وهم يظنون أنهم يهدونك سواء السبيل.
فإذاً من المهم لطالب العلم أن يترك الجدال والمراء، وأن يترك ما يَرِدُ على ذهنه من الإيرادات، اترك هذه الأشياء، لا تتنطع، اجعل علمك سهلاً ميسِّراً.
يعني الأعرابي يأتي ببعيره يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن مسائل الدين، ثم ينصرف بدون مشقة، لأنه ليس عنده إلا التسليم، أما المناقشات والمراء والجدال، فهذا يضر الإنسان، فالشيخ أبو بكر جزاه الله خيراً ألمح إلى هذا الأمر، وما يجلب الآثام ويصد عن الشرع
قالَ الذَّهبِيِّ- رَحِمَهُ الله تَعالى: وصح عَنِ الداّرقُطْنِيّ أَنَّهُ قال ما شَيْءٌ أَبْغَضُ إلِيَّ مِنْ عِلْمِ الْكَلامِ. قلْتُ: لَمْ يَدْخُلِ الرَّجُلَ أَبَداً في عِلْمِ الْكَلامِ وَلا الْجِدالِ، وَلا خاضَ في ذلك، بَلْ كانَ سَلَفِياً.
يعني بذلك الدارقطني يبغضه مع أنه لم يدخل فيه، لكن لما له من نتائج سيئة، وتطويل بلا فائدة وتشكيك لما هو متيقن، وإرباك للأفكار، وهجر للآثار، ولهذا ليس شيءٌ فيما أرى أضر على المسلمين في عقائدهم من علم الكلام والمنطق، وكثير من علماء الكلام الكبار أقَّروا في آخر حياتهم أنهم على دين العجائز، ورجعوا إلى الفطرة الأولى، لِما علموا من علم الكلام.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في (الفتوى الحموية): وأكثر من يُخاف عليه الضلال، هم المتوسطون من علماء الكلام، لأن من لم يدخل فيه فهو في عافية منه ومن دخل فيه وبلغ غايته فقد عرف بطلانه وفساده ورجع. اهـ وصدق رحمه الله، وهذا هو الذي يُخاف في كل علم، يُخاف من الأنصاف الذين ما عرفوا الطريق لأنهم لم يروا أنفسهم أنهم لم يدخلوا في العلم فيتركوه لغيرهم، ولم يبلغوا غاية العلم والرسوخ فيه فيَضلون ويُضلون. لكن علم الكلام خطير لأنه يتعلق بذات الرب وصفاته ولأنه يبطل النصوص تماماً ويحكِّم العقل، ولهذا كان من قواعدهم: أن ما جاء في النصوص من صفات الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم أقره العقل، فهذا نقره بدلالة العقل لا بدلالة السمع.
الثاني: قسم نفاه العقل، فيجب علينا نفيه دون تردد لأن العقل نفاه، ولكن عقل من ؟! قال الإمام مالك رحمه الله: ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أخذنا بقوله وتركنا من أجله الكتاب والسنة، هذا لا يمكن.
الثالث: قسم لم يرد العقل بنفيه ولا بإثباته، فمن قال: إن شرط الإثبات دلالة العقل، قال: يُرد، لأن العقل لم يثبته، ومن قال: إن من شرط قبوله أن لا يرده العقل، قال: إنه يُقبل، وأكثرهم يقول: إنه يُرد ولا يُقبل، لأن من شرط إثباته أن يدل عليه العقل. وبعضهم يتوقف، قالوا: إذا لم يثبته العقل ولم ينفه، فالواجب علينا أن نتوقف.
وكل هذه قواعد ما أنزل الله بها من سلطان، ضلوا بها وأضلوا والعياذ بالله، وارتبكوا وشكُّوا وتحيَّروا، ولهذا أكثر الناس شكًّا عند الموت هم أهل الكلام، يترددون: هل الله جوهر أم عَرَض؟ هل هو قائم بنفسه أو بغيره؟ هل يفعل أم لا يفعل؟ هكذا.. عند الموت فيموت وهو شاكٌّ، نسأل الله السلامة والعافية. لكن إذا كانت طريقته طريقة السلف الصالح، سهل عليه الأمر ولم يرد على قلبه شك ولا تشكيك ولا تردد.
وَهؤلاءِ هُمْ "أَهْلُ السُّنَةِ وَالْجَماعَةِ"، الْمُتَّبِعونَ آثارَ رَسولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ كَما قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابن تَيْمِيَّةِ – رَحِمَهُ الله تَعالى: ( وأهلُ السنَّةِ : نَقاوةُ المسلمينَ، وهم خيرُ الناسِ للناسِ ) اهـ .
فالْزَم السبيلَ ( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) [ سورة الأنعام: 153]
اعلم أن من المتأخرين من قال: إن أهل السنة ينقسمون إلى قسمين: مفوِّضة ومؤوِّلة، وجعلوا الأشاعرة، والماتريدية، وأشباهمم من أهل السنة، وجعلوا المفوِّضة هم السلف، فأخطئوا في فهم السلف وفي منهجهم، لأن السلف لا يفوضون المعنى إطلاقاً، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن القول بالتفويض من شر أقوال أهل البدع، والإلحاد)، واستدل بذلك بأننا إذا كنا لا ندري معاني ما أخبر الله به عن نفسه من أسماء وصفات، جاءنا الفلاسفة وقالوا: أنتم جهال، ونحن الذين عندنا العلم، ثم يتكلموا بما يريدون، وقالوا: إن المراد بالنص كذا وكذا، ومعلوم أن معنىً للنص خيرٌ من توقفٍ فيه وأنه ليس له معنى.ً
فانتبهوا لهذا، لأن بعض الناس يرى أن أهل السنة والجماعة يدخل فيهم المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم.
ثم يقول – من العجب العجاب- طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. سبحان الله !! وكيف تكون طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم؟ وهل يمكن أن تكون أعلم وأحكم وليست أسلم ؟ بل يلزم من كون طريقة السلف أعلم وأحكم أن تكون أسلم بلا شك، لأن شخصاً يقول: هذا النص له معنىً وأنا أؤمن به، أعلم بلا شك وأحكم من شخص يقول: لا أدري، فلا سلامة إلا بالعلم والحكمة، فهذا تناقض عظيم، ولهذا كان القول الصحيح في هذه العبارة: أن طريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم.
ويلزم من كوننا نحث الطلبة على منهج السلف، يلزم من ذلك تحريضهم على معرفة منهج السلف، فنطالع الكتب المؤلفة في ذلك، كـ (سير أعلام النبلاء)، وغيرها حتى نعرف طريقهم، ونسلك هذا المنهج القويم.
3- مُلازَمَةُ خَشْيَةِ الله تَعالى: التَّحَلّي بِعِمارَةِ الظّاهِرِ وَالْباطِنِ بِخَشْيَةِ الله تَعالى؛ مُحافِظاً عَلى شَعائِر الإسْلامِ، وَإِظْهارِ السُّنَةِ وَنَشْرِها بِالْعَمَلِ بِها وَالدَّعْوَةِ إِلَيْها؛ دالاًّ عَلى الله بِعِلْمِكَ وَسَمْتِكَ وَعَمَلِكَ، مُتَحَلِياًّ بِالرُّجولَةِ، وَالْمُساهَلَةِ، وَالسَّمَتِ الصَالِحِ. وَمَلاكُ ذلكَ خَشْيَةُ الله تَعالى، وَلِهذا قالَ الإمامُ أَحْمَد – رَحِمَهُ الله تَعالى- : (أَصْلُ الْعِلْمِ خَشَيْةُ الله تَعالى).
وهذا الذي قاله الإمام أحمد صحيح: أصل العلم خشية الله، وخشية الله هي الخوف المبني على العلم والتعظيم، ولهذا قال الله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] فالإنسان إذا علم الله عز وجل حق العلم، وعرفه حق المعرفة، فلا بد أن يكون في قلبه خشية الله؛ لأنه إذا علم ذلك علم عن رب عظيم عن رب قوي عن رب قاهر عن رب عالم بما يسر ويخفي الإنسان، فتجده يقوم بطاعة الله عزَّ وجلَّ أتم قيام .(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
قال العلماء: والفرق بين الخشية والخوف أن الخشية تكون من عظم المخشي، والخوف من ضعف الخائف، وإن لم يكن المخوف عظيماً، ولهذا يخاف الصبي من فتى أكبر منه قليلا.ً
والحاصل: أن الخشية تكون من عظم المخشي، والخوف يكون من نقص الخائف، ولهذا بعض الناس يخاف من لاشيء لأنه رعديد يعني جبان ولهذا يضرب المثل بالرجل يخاف من ظلاله.
ولكن قد يقال: خِفِ الله. (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [ آل عمران: 175] وهنا في مقابلة فعل هؤلاء الذين يخافون من الناس.
فَالزَمْ خَشْيَةَ الله في السِّرِ والْعَلَنِ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْبَرِيَّةِ مَنْ يَخْشى الله تَعالى وَما يَخْشاهُ إِلاّ عالِمٍ، إِذَنْ فَخَيْرُ الْبَرِيَّةِ هُوَ الْعالِم، وَلا يَغِبْ عَنْ بالِكَ أَنَّ الْعاِلمَ لا يُعَدُّ عالِماً إِلاّ إِذا كانَ عامِلاً، وَلا يَعْمَلُ الْعالِمُ بِعِلْمِهِ إلا إِذا لَزِمَتْهُ خَشْيَةُ الله. وَأَسْنَدَ الْخَطيبُ الْبَغْدادَيّ – رَحِمَهُ الله تَعالى- بِسَنَدٍ فيه لَطيفَةٍ إِسْنادِيَّةٍ بِرِوايَةِ آباءٍ تِسْعَة، فَقال: أَخْبَرَنا أَبو الْفَرَجْ عَبْدِ الوَّهاب بن عَبْدِ الْعَزيز بن الْحارِثِ بن أسَد بن اللَّيْثِ بنْ سُلَيْمان بن الأّسْوَدِ بن سُفْيانٍ بن زَيْدٍ ابْنِ أُكَيْنَةَ بن عَبْدِ الله التَّميمي من حفظه؛ قال: سَمِعْتُ أَبي يَقول سَمِعْتُ أَبي يَقول: سَمِعْتُ أَبي يَقول: سَمِعْتُ أَبي يَقول: سَمِعْتُ أبي يقول : سَمِعْتُ أَبي يَقول: سَمِعْتُ أَبي يَقول: سَمِعْتُ عَلِيّ بنْ أَبي طالِبٍ يَقول: (هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجابَهُ، وَإِلا ارْتَحَلْ) وَهذا اللَّفْظُ بِنَحْوِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ سُفْيانِ الثَّوْرِيِّ رَحِمُه الله تَعالى.
قوله: (لا يعد عالما) يعني عالماً ربانياً، وأما كونه عالماً ضد الجاهل، فهذا يُقال، إن الذي ألف (المنجد) رجل نصراني وفيه من معرفة اللغة العربية الشيء الكثير، وإن كان فيه غلطات كثيرة وأشياء تؤخذ عليه من الناحية الدينية، لكن العالم الذي يعمل بعلمه هو الذي يصدق عليه أنه عالم رباني، لأنه يربي نفسه أولاً، ثم يربي غيره ثانياً.
(هتف العلم) إذاً لابد من العمل بما علم، لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول ما تسعر بهم النار يوم القيامة.
وعالم بعلمه لم يعلم معذب من قبل عباد الوثنً
هذه واحدة، إذا لم يعمل بعلمه، أورث الفشل في العلم وعدم البركة ونسيان العلم لقول الله تعالى: ( فبما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً* يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذكروا به) [ المائدة: 13] وهذا النسيان يشمل النسيان الذهني والعملي، قد يكون بمعنى ينسونه دينيا ً، أو بمعنى ينسونه: يتركونه، لأن النسيان في اللغة العربية يُطلق بمعنى الترك. أما إذا عمل الإنسان بعلمه فإن الله تعالى يزيده هدىً .
قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)[ محمد: 17] ويزيده تقوى، ولهذا قال: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) إذا عمل بعلمه ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم، ولهذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وتُروى هذه اللفظة: العلم يهتف بالعمل – يعني يدعوه- فإن أجابه وإلا ارتحل –أي العلم -، وهذا واضح لأنك إذا عملت بالعلم تذكرته كلما عملت.
وأضرب لكم مثلا برجل عرف صفة الصلاة من السنة وصار يعمل بها كلما صلى هل ينسى ما علم؟ لا ينسى، لأنه تكرر، لكن لو ترك العمل به نسي، وهذا دليل محسوس على أن العمل بالعلم يوجب ثبات العلم ولا ينساه.
___________________
تعليقات
إرسال تعليق