لمحة عن الفرق الضالة
لمحة عن الفرق الضالة
[نص محاضرة ألقاها الشيخ: صالح الفوزان بمدينة الطائف، يوم الاثنين، الموافق: 3/3/1415 هـ في مسجد الملك فهد بالطائف.]
المقدمة
أهمية الحديث عن الفرق
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الحديث عن الفرق ليس هو من باب السرد التاريخي، الذي يقصد منه الاطلاع على أصول الفرق لمجرد الاطلاع، كما يطلع على الحوادث التاريخية، والوقائع التاريخية السابقة، وإنما الحديث عن الفرق له شأن أعظم من ذلك؛ ألا وهو الحذر من شر هذه الفرق ومن محدثاتها، والحث على لزوم فرقة أهل السنة والجماعة.
وترك ما عليه الفرق المخالفة لا يحصل عفوا للإنسان، لا يحصل إلا بعد الدراسة، ومعرفة ما الفرقة الناجية ؟
من هم أهل السنة والجماعة، الذين يجب على المسلم أن يكون معهم ؟
ومن الفرق المخالفة ؟.
وما مذاهبهم وشبهاتهم ؟. حتى يحذر منها.
لأن (من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه)، كما قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - :
(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر ؟. قال: " نعم ". فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير ؟. قال " نعم، وفيه دخن ". قلت: وما دخنه ؟. قال: " قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ". فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر ؟. قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: " نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ". قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك ؟. قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟. قال: " فاعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك ")(1)
فمعرفة الفرق ومذاهبها وشبهاتها، ومعرفة الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، وما هي عليه؛ فيه خير كثير للمسلم، لأن هذه الفرق الضالة عندها شبهات، وعندها مغريات تضليل، فقد يغتر الجاهل بهذه الدعايات وينخدع بها؛ فينتمي إليها، كما قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر في حديث حذيفة :
(هل بعد ذلك الخير من شر؟. قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: " نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ").
فالخطر شديد، وقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم - كما في حديث العرباض بن سارية - :
أنه وعظهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).(2)
_________
(1) [رواه البخاري في صحيحه : (3606) و(7084)، ومسلم في صحيحه - أيضا -: (1847)، وأحمد مطولا: (5/386، 403) ومختصرا: (5/391، 399) ومختصرا بلفظ مختلف: (5/404)، وأبو داود السجستاني: (4244)، وبلفظ مختلف: (4246)، والنسائي في الكبرى: (5/17، 18)، وابن ماجه: (4027) و(4029)، وأبو داود الطيالسي في مسنده : (442)، وبلفظ مختلف: (443) ص 59، وأبو عوانة في الصحيح المسند: (4/474 و 475)، وعبد الرازق في مصنفه: (20711) (11/341)، وابن أبي شيبة في كتاب الفتن: (2449) و(8960) (18961) و(18980)، والحاكم في مستدركه ؟!!: (4/432) وصحح إسناده، ووافقه الذهبي ؟!.]
(2)[رواه أحمد في مسنده : (4/126)، (4/127)، والترمذي: (2676)، وأبو داود: (4607)، وابن ماجه: (34) في المقدمة، والدارمي في سننه : (95)، وابن حبان في صحيحه : (5)، والطبراني في الكبير: (18/617، 618، 619، 622، 623، 624، 642)، والآجري في الشريعة ص: (46 - 47)، وابن أبي عاصم في السنة: (27، 32، 57، 54)، وابن بطة العكبري في الإبانة الكبرى: (142) (1/305)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: (81)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة ص: 21، والبغوي في شرح السنة : (205) وفي تفسيره : (3/209)، والطحاوي في مشكل الآثار : (2/69)، والبيهقي: (6/541)، والحاكم في المستدرك : (1/96 - 97).]
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون هناك اختلاف وتفرق وأوصى عند ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ما خالفها من الأقوال، والأفكار، والمذاهب المضلة، فإن هذا طريق النجاة، وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بالاجتماع والاعتصام بكتابه، ونهى عن التفرق، قال - سبحانه - :
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ سورة آل عمران 103].
إلى أن قال - سبحانه وتعالى - :
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ سورة آل عمران 105_ 106 ](1)
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة) [ذكره البغوي في تفسيره : (2/87)، وابن كثير: (2/87) طبعة الأندلس].
وقال - سبحانه وتعالى - :
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [ سورة الأنعام 159 ].
فالدين واحد، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقبل الانقسام إلى ديانات وإلى مذاهب مختلفة، بل دين واحد هو دين الله - سبحانه وتعالى -، وهو ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك أمته عليه، حيث ترك صلى الله عليه وسلم أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله، وسنتي)(2)
___________
(1) [قال البغوي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية (2/86): (قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: المبتدعة من هذه الأمة. وقال أبو أمامة - رضي الله عنه -: هم الحرورية بالشام - أي: الخوارج -. قال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال: " هم كلاب النار، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم "، ثم قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله - تعالى -: {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}) اهـ.] * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. [ سورة آل عمران ].
(2) [رواه مالك في الموطأ: (2/1899)، والحاكم في المستدرك : (1/93) موصولا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ورواه مطولا دون لفظة وسنتي مسلم: (1218)، وابن ماجه: (3110)، وأبو داود: (1909) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وفيه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وخطبته بهم].
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
ذم التفرق في الكتاب والسنة ومدح الإجتماع
وما جاء التفرق في الكتاب العزيز إلا مذموما ومتوعدا عليه، وما جاء الاجتماع على الحق والهدى إلا محمودا وموعودا عليه بالأجر العظيم، لما فيه من المصالح العاجلة والآجلة.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أحاديث كثيرة تأمر بلزوم الجماعة(1)
____________
(1) [قال ابن حجر في " الفتح ": (13/391): (... وورد بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها: ما أخرجه الترمذي مصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري - رضي الله عنه -، فذكر حديثا طويلا وفيه: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه). (رواه مرفوعا الإمام أحمد في مسنده : (4/130، 4/202، 5/344)، والترمذي (2863 - 2864) وقال: حديث حسن صحيح غريب). وفي خطبة عمر المشهورة، التي خطبها بالجابية: " عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد " (رواه مرفوعا الإمام أحمد في مسنده : (1/18)، والترمذي في سننه : (2165)، والنسائي في " الكبرى ": (9219) (9226)، والبغوي في تفسيره : (2/86)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (86 _ 88)، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (1/106 - 107)، والحاكم في " مستدركه ": (1/114) وصححه، ووافقه الذهبي). وفيه: " ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ".
قال ابن بطال: " مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة... والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر "
وقال الكرماني: " مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف المتابعة لما أجمع عليه المجتهدون "...) انتهى من فتح الباري.
وقال الترمذي في سننه بعد الحديث رقم (2167): (وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم: أهل الفقه، والعلم، والحديث) انتهى.
ولأهمية هذا الأمر بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه: (باب.. وكذلك جعلناكم أمة وسطا.. وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم).
وبوب النووي في صحيح مسلم: (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة).
وبوب الترمذي في سننه باب ما جاء في لزوم الجماعة.
وكذلك بوب الدرامي في سننه بابين فيه، أولهما في " كتاب السير ": (باب في لزوم الطاعة والجماعة)، والآخر في " كتاب الرقاق ": (باب في الطاعة ولزوم الجماعة).
وبوب الآجري في " الشريعة " بابين - كذلك -، الأول: (باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة)، والثاني: (باب ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بلزوم الجماعة، وتحذيره إياهم الفرقة)
وغيرهم من أئمة الحديث ثم ساقوا - رحمهم الله - بعد ذلك الأحاديث التي جاءت في ذلك، ومنها:
حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس من أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية). (رواه أحمد في مسنده : (1/275، 297، 310)، والبخاري: (7053) (7054) (7143)، ومسلم: (1849)، والدرامي: (2519)، والبغوي: (2458)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1101)، والطبراني في " المعجم الكبير ": (12759)، والبيهقي: (8/157)).
وعن عوف بن مالك الأشجعي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قلنا: أفلا ننابذهم يا رسول الله عند ذلك ؟. قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة). (رواه أحمد في مسنده : (6/24)، ومسلم: (1855)، والدرامي: (2797)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1017)، والبيهقي: (8/158)).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة). (رواه الترمذي: (2166)).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار). (رواه الترمذي: (2167))
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله - عز وجل - لن يجمع أمتي إلا على هدى) (رواه أحمد في " المسند ": (5/145))
وعن رجل قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أيها الناس عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، أيها الناس عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة) ثلاث مرار. (رواه أحمد في " المسند ": (5/371). ولا تضر جهالة الرجل لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول بالإجماع، رضي الله عنهم أجمعين).
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاه القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد). (رواه أحمد في مسنده : (5/233، 243)).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفارة، والجمعة إلى الجمعة التي قبلها كفارة، والشهر – (المقصود بالشهر هنا " شهر رمضان " كما في الرواية الأخرى) - إلى الشهر الذي قبله كفارة، إلا من ثلاث - قال: فعرفنا أنه أمر حدث -: إلا من الشرك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة. - قال: - أما نكث الصفقة: فأن تعطي رجلا بيعتك ثم تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة: فالخروج من الجماعة). (رواه أحمد في مسنده : (2/229)، (2/506))
ولما في مفارقة الجماعة من مفاسد جمة، جعل الشارع الحكيم القتل عقوبة لمن فارق الجماعة :
فعن عرفجة الأشجعي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب الناس، فقال: (إنه سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يريد يفرق أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم كائنا من كان فاقتلوه، فإن يد الله على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض).
(رواه مسلم: (1852)، وأبو داود: (4762) باب في قتل الخوارج.
ويؤخذ من تبويب أبي دواد على هذا الحديث: أن من فارق الجماعة فإنه خارجي. ورواه النسائي: (4032) واللفظ له).
وبوب النسائي عليه في كتاب " تحريم دم المسلم " من " سننه ": (باب قتل من فارق الجماعة).
فما بالك بمن فارق الجماعة، ولحق بأعداء الله المشركين في بلادهم، يدعي أنه ينصر دين الله بذلك وبما يبثه من منشورات، ينتقص فيها العلماء، ويهون فيها من قدر الولاة والأمراء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله).
(رواه أبو داود في سننه من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: (2787)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ("أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، لم ؟. قال: "لا تراءى ناراهما").
(رواه أبو داود: (2645)، والترمذي: (1604)).
قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد - رحمه الله تعالى - يسئل عن معنى: " لا تراءى نارهما " فقال: (لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدت رأوا فيه نارك، وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم، ولكن تباعد عنهم).
وقال جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشركين).
(رواه الإمام أحمد في مسنده : (4/365)، والنسائي: (7/148)، والبيهقي: (9/13)).
قال الشيخ العلامة: حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله - في كتابه " تحفة الإخوان " ص 27: (وقد ورد النهي عن مجامعة المشركين، ومساكنتهم في ديارهم، والتغليظ في ذلك، لأن مجامعتهم ومساكنتهم من أعظم الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم. والأحاديث في ذلك كثيرة).
ثم ساق الشيخ عدة أحاديث، ثم قال :
(فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله - تعالى - هذه الأحاديث، وليعطوها حقها من العمل، فقد قال - تعالى -: {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}) اهـ. (سورة الزمر) ].
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
قال صلى الله عليه وسلم: ("إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة". قالوا ومن هي يا رسول الله ؟. قال: " ما أنا عليه اليوم وأصحابي ") (1)
فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا بد أن يحصل تفرق في هذه الأمة، وهو لا ينطق عن الهوى، لا بد أن يحصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم معناه النهي عن التفرق، والتحذير من التفرق، ولهذا قال: (كلها في النار إلا واحدة)(2).
ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم: ما هذه الواحدة الناجية ؟. قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)(3).
_____________
(1) [أخرجه الترمذي: (2641)، واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ": (147)، والآجري في " الشريعة " ص 15، والمروزي في السنة ص 18، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (264، 165) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي: ضعيف. لكن الحديث يصح بشواهده، ومنها :
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :
رواه الإمام أحمد في مسنده : (2/332)، وأبو داود: (4596)، والترمذي: (2640)، وابن ماجه: (3991)، والآجري في " الشريعة " ص 25، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (252)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (66)، والحاكم في " مستدركه ": (1/128) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان: (2614)، ورواه - أيضا - أبو يعلى الموصلي في مسنده : (541 - 542)، والمروزي في السنة ص 17.
2 - حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - :
رواه أحمد: (4/201)، وأبو داود: (4597)، وأبو داود الطيالسي: (2754)، والدرامي: (2521)، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (150)، وابن أبي عاصم: (1) (65)، والآجري في " الشريعة " ص 18، والمروزي في السنة ص 14 - 15، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (266)، والطبراني في " الكبير ": (19/884 - 885).
3 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :
أخرجه أحمد: (3/120، 145)، والآجري في " الشريعة " ص 16، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (148)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (269 - 270 - 271)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (74).
4 - حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - :
رواه ابن ماجه: (3992)، والبزار: (172)، واللالكائي: (149)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (63)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (272) " , والحاكم في " مستدركه ": (4/430).
5 - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :
أخرجه ابن جرير في تفسيره : (27/239)، والطبراني في " الكبير ": (10375) (10531)، وابن أبي عاصم: (70 - 71)، والمروزي في السنة ص 16.
6 - حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - :
أخرجه اللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ": (151 - 152)، والمروزي في السنة ص 16 وص 17، وابن أبي عاصم: (86)، والطبراني في " الكبير ": (8035 - 8051)، والبيهقي: (8/88).
7 - حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
رواه المروزي في السنة ص 19، وابن وضاح ص 85، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (274 - 275).
8 - حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
رواه ابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (263) (266) (267)، والمروزي في السنة ص 17، والآجري في " الشريعة " ص 17.
وفيه: موسى بن عبيدة الربذي: ضعيف.]
(2) ابن ماجه في الفتن (3993)
(3) الترمذي في الإيمان (2641)
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
فمن بقي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو من الناجين من النار، ومن اختلف عن ذلك فإنه متوعد بالنار، على حسب بعده عن الحق، إن كانت فرقته فرقة كفر وردة فإنه يكون من أهل النار الخالدين فيها، وإن كانت فرقته لم تخرجه عن الإيمان. لكن عليه وعيد شديد، ولا ينجو من هذا الوعيد إلا طائفة واحدة من ثلاث وسبعين، وهي " الفرقة الناجية " " من كان على مثل ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه "، هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنهج السليم والمحجة البيضاء.
هذا هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال - تعالى - :
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ سورة التوبة، الآية: 100 ].
قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} [ سورة التوبة، الآية: 100 ].
فدل هذا على أنه مطلوب من آخر هذه الأمة أن يتبعوا منهج السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، الذي هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما من خالف منهج السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فإنه يكون من الضالين، قال - سبحانه - :
{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً} [ سورة النساء 69 _ 70 ].
فمن أطاع الله وأطاع الرسول في أي زمان ومكان، سواء كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو آخر مسلم في الدنيا، إذا كان على طاعة الله ورسوله، فإنه يكون مع الفرقة الناجية..
{فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} [ سورة النساء 69 ].
أما من تخلف عن هذا المنهج فإنه لن يحصل على هذا الوعد، ولن يكون مع هؤلاء الرفقة الطيبين، وإنما يكون مع الذين انحاز إليهم من المخالفين.
ولهذا، هذا الدعاء العظيم، الذي نكرره في صلاتنا، في كل ركعة في آخر الفاتحة:
{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [ الفاتحة 6_ 7 ].
هذا دعاء عظيم، نسأل الله في كل ركعة من صلاتنا، أن يهدينا لصراط الذين أنعم الله عليهم، وهو الذي جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وكان عليه أتباعهم إلى يوم القيامة، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم هو المتبع، والمطاع، والمقتدى به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي آخر الزمان، ومنذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة والناس كلهم مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم، حتى لو قدر أنه جاء نبي من السابقين فإنه يجب أن يكون متبعا لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حيا بين أظهركم، ما حل له إلا أن يتبعني)(1).
___________
(1) [رواه أحمد: (3/338 و 387)، والدارمي: (1/115)، والبزار: (124) من حديث جابر بن عبد الله.
ومدار إسناده على مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.
قال شعيب في " السير ": (13/324): (لكن الحديث يتقوى بشواهده، منها: حديث عبد الله بن ثابت: عند أحمد: (3/470 - 471). وفي سنده جابر الجعفي، وهو ضعيف.
وحديث عمر: عند أبي يعلى. وفيه: عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي.
وحديث عقبة بن عامر: عند الروياني في مسنده : (9، 50، 2). وفيه: ابن لهيعة.
وحديث أبي الدرداء: عند الطبراني في " الكبير ") اهـ.
انظر: " مجمع الزوائد ": (1/173 - 174).
قال الشيخ حافظ الحكمي في " الجوهرة الفريدة " :
وكان بعثته للخلق قاطبة ** وشرعه شامل لم يعده أحد
ولم يسع أحدا عنها الخروج ولو ** كان النبيون أحياء لها قصدوا ]
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
وذلك في قوله - تعالى - :
{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {82} أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ} [ سورة آل عمران 81 _ 83 ].
فلا دين بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ابتغى غيره من الأديان فإنه لن يقبل منه، ويكون يوم القيامة من الخاسرين :
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ سورة آل عمران 85 ]
{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}[ سورة الفاتحة 7 ] : وهم كل من عنده علم ولم يعمل به، من اليهود وغيرهم من ضلال العلماء، الذين عرفوا الحق وتركوه؛ تبعًا لأهوائهم، وأغراضهم، ومنافعهم الشخصية، يعرفون الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لا يتبعونه، بل يتبعون أهواءهم، ورغباتهم، وما تمليه عليهم عواطفهم، أو انتماءاتهم المذهبية أو غير ذلك، هؤلاء يُعتبرون من {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}[ سورة الفاتحة 7 ] ، لأنهم عصوا الله على بصيرة، فغَضب الله عليهم.
{وَلاَ الضَّالِّينَ}[ سورة الفاتحة 7 ] : وهم الذين يعملون بغير علم، ويجتهدون في العبادة، لكنهم على غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كالمبتدعة والمخرّفين، الذين يجتهدون في العبادة، والزهد، والصلاة، والصيام، وإحداث عبادات ما أنزل الله بها من سلطان، ويتبعون أنفسَهم بأشياء لم يأتِ بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم. هؤلاء ضالون، عملُهم مرود عليهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليسَ عليه أمرنا فهو رَدٌّ)(1)
هؤلاء هم (الضالون) ومنهم النصارى، وكل من عبد الله على جهل وضلال، وإن كانت نيته حسنة ومقصده طيبًا، لأنَّ العبرةَ ليستْ بالمقاصد فقط، بل العبرةُ بالاتباع.
____________
(1) [رواه الإمام أحمد في مسنده : (6/180 و 146 و 256)، ورواه البخاري بهذا اللفظ معلقًا: (13/391) في كتاب " الاعتصام ".
ومسلم في صحيحه : (1718)، (18)، والبخاري موصولاً في " خلق أفعال العباد " ص 43، وأبو عوانة: (4/18 - 19)، وأبو داود الطيالسي في مسنده : (1422) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
ورواه بلفظ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فو رَدٌّ) :
الإمام أحمد: (6/240 و 270)، والبخاري في صحيحه موصولاً: (2697)، ومسلم: (1718) (17)، وأبو داود: (4606)، وابن ماجه: (12)، وأبو عوانة: (4/18)، والبغوي في شرح السنة : (103)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (52 - 53)، والبيهقي: (10/119)، والدارقطني: (4/224، 225، 227)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (148) بلفظ: (من فعل في أمرنا ما لا يجوز فهو مردود)، وأحمد في مسنده : (6/173) بلفظ: (من صنع أمرًا من غير أمرنا فهو مردود).]
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
شروط قبول العمل
ولهذا يُشْتَرَطٌ في كلِّ عملٍ، أن يتوفَّرَ فيه شرطان، ليكونَ مقبولاً عند الله، ومثابًا عليه صاحبُه :
الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل -
الشرط الثاني: المتابعةُ للرسول صلى الله عليه وسلم قال - تعالى - :
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. [ سورة البقرة 112 ]
وإسلام الوجهِ يعني: الإخلاصَ للهِ.
والإحسانُ هو المتابعةُ للرسولِ صلى الله عليه وسلم.
فالله - جل وعلا - أمرَ بالاجتماعِ على الكتابِ والسنّةِ، ونهانا عن التفرقِ والاختلاف.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كذلك أمرنا بالاجتماع على الكتاب والسنّةِ، ونهانا عن التفرق والاختلاف.
لما في الاجتماع على الكتاب والسّنة من الخير العاجل والآجل، ولما في التفرقِ من المضارِ العاجلةِ والآجلة في الدنيا والآخرة.
فالأمرُ يحتاجُ إلى اهتمامٍ شديدٍ، لأنه كلما تأخّر الزمانُ كَثُرتِ الفِرَقُ، وكثرتِ الدعايات، كثرتِ النِّحَلُ والمذاهبُ الباطلةُ، كثرتِ الجماعاتُ المتفرقةُ. لكن الواجب على المسلم أن يَنْظُرَ، فما وافق كتابَ الله وسنّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم أخذَ به، ممن جاءَ به، كائنًا من كان؛ لأن الحقَّ ضالةُ المؤمن.
أما ما خالف ما كان عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم تركَه، ولو كان مع جماعتِهِ، أو مع من ينتمي إليهم، مادام أنهُ مخالفُ للكتاب والسنّة؛ لأن الإنسان يريدُ النجاةَ لا يريدُ الهلاكَ لنفسه.
والمجاملةُ لا تنفعُ في هذا، المسألةُ مسألةُ جنّةٍ أو نار، والإنسانُ لا تأخذُه المجاملةُ، أو يأخذه التعصبُ، أو يأخذُه الهوى في أن ينحازَ مع غير أهل السنّةِ والجماعةِ، لأنه بذلك يضرٌّ نفسّهُ، ويُخرِجُ نفسَه من طريق النجاةِ إلى طريقِ الهلاكِ.
وأهلُ السنّةِ والجماعةِ، لا يضُّرهم من خالفهم سواءً كنتَ معهم، أو خالفتَهم. إن كنتَ معهم، أو خالفتهم. إن كنتَ معهم فالحمدُ لله، وهم يفرحون بهذا، لأَّنهم يريدون الخيرَ للناس، وإن خالفتَهم فأنتَ لا تضرُّهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيَ أمرُ الله وهم كذلك)(1).
فالمخالفُ لا يضرُّ إلا نفسَه.
___________
(1) أخرجه بهذا اللفظ: مسلم: (1920)، وأبو داود: (4252)، وفيه: " لا يضرهم من خالفهم "، وزيادةٌ طويلةٌ في أوَّلِه. وأخرجه - أيضًا - الترمذي: (2229) مختصرًا وصحَّحه، وأخرجه ابن ماجة في " المقدمة ": (10) وفي: (3952) مطوَّلاً، وأخرجه أحمد: (5/278) مطولاً، وفي: (5/279) مختصرًا.
وأبو عوانة: (5/109) مختصرًا، وأبو نعيم: (192)، والبيهقي: (9/181)، والحاكم: (4/449) مطولاً.
وأخرجه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - :
البخاري: (3640) (959)، ومسلم: (1921)، وأحمد: (4/244، 252)، والدارمي: (3437)، وأبو عوانة: (5/109)، واللالكائي: (167)، وأبو نعيم: (437)، والطبراني في " الكبير ": (659) (960) (962).
وأخرجه من حديث معاوية - رضي الله عنه - :
البخاري: (3641)، ومسلم: (3/1524)، وأحمد: (4/101)، وأبو عوانة: (5/106 - 107)، واللالكائي: (166)، وأبو نعيم: (311)، والبغوي في تفسيره : (2/218) مختصرًا.
وأخرجه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - :
الإمام أحمد: (5/103)، ومسلم: (1922)، وأبو عوانة: (5/105)، والطبراني في " الكبير ": (1819)، والحاكم: (4/449).
وأخرجه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - :
مسلم: (1923)، وأبو عوانة: (5/105)، وأحمد: (3/345، 384) وأبو يعلى في مسنده : (313)، والبيهقي: (8/180).
ومن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
أخرجه مسلم: (1925)، وأبو عوانة: (5/109)، واللالكائي: (170)، وأبو نعيم: (214).
ورُويَ الحديثُ عن عدد من الصحابة غير هؤلاء، منهم: عمر بن الخطاب، وسلمة الكندي، وعمران بن حصين، والنواس بن سمعان، وأبو أمامة، وقرة المزني، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. ]
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
بيان أن العبرة بالحق وليست بالكثرة
وليست العبرةُ بالكثرةِ، بل العبرةُ بالموافقةِ للحق (1) ، ولو لم يكنْ عليه إلا قِلَّةٌ من الناس، حتى ولو لم يكن في بعض الأزمان إلا واحدٌ من الناس؛ فهو على الحق، وهو الجماعة.
فلا يلزمُ من الجماعةِ الكثرةُ، بل الجماعةُ من وافقَ الحقَّ، ووافقَ الكتاب والسنّة، ولو كان الذي عليه قليلٌ.
أما إذا اجتمعَ كثرةٌ وحقٌ، فالحمد لله هذا قوة.
أما إذا خالفته الكثرة، فنحن ننحازُ مع الحقِّ، ولو لم يكنْ معه إلا القليلُ.
وكما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم من حصول التفرق والاختلاف قد وقَعَ، ويتطور كلما تأخَّرَ الزمان، يتطوَّرُ التفرقُ والاختلاف إلى أن تقوم الساعةُ، حكمةٌ من الله - سبحانه وتعالى -، ليبتلي عبادَهُ، فيتميزُ من كان يطلبُ الحقَّ، ممن يؤثرُ الهوى والعصبية :
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [ سورة العنكبوت 2_ 3 ].
وقال - سبحانه وتعالى - :
{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. [ سورة هود 118 _ 119 ]
فحصول هذا التفرق، وهذا الاختلاف؛ ابتلاءٌ من الله - سبحانه وتعالى -، وإلا فهو قادر - سبحانه - أن يجمعَهم على الحق :
{وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [ سورة الأنعام، الآية: 35}.
هو قادر على هذا، لكنَّ حكمتَهُ اقَتضَتْ أنْ يبتليَهم بوجودِ التفرق والاختلاف، من أجل أنْ يتميزَ طالبُ الحقِّ من طالبِ الهوى والتعصب.
ومازالَ علماءُ الأمة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ينهون عن هذا الاختلاف، ويوصون بالتمسك بكتابِ الله وسنّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بقيتْ بعدَهم.
تجدون في كتاب " صحيح البخاري " مثلاً: " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ".
تجدون في كتب العقائد ذكرَ الفرقِ الهالكة، وذكرَ الفِرقة الناجية.
وأقربُ شيئٍ لكم شرحُ الطحاوية، وهي بين أيديكم الآن.
والغرضُ من هذا بيانُ الحقِّ منن الباطل؛ إذ وقعَ ما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم من التفرق والاختلاف.
فالواجبُ أن نعملَ بما أوصانا به الرسولُ صلى الله عليه وسلم في قوله: " فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ". (2)
_____________
(1) [ هذا هو الحق الذي ندينُ الله به، بخلاف ما اعتمدتهُ بعضُ الجماعات في الدعوةِ إلى الله؛ بأن الهدف هو التجميعُ والتكتيلُ فقط، ولو اختلفتِ العقائدُ، فيجعلون في جماعتِهم الأشعريَّ، والجهميَّ، والمعتزليَّ، والرافضيَّ، وربما النصرانيَّ واليهوديَّ، ويقولون: (نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه !). ]
(2) [ سَبَقَ تخريجه ص: 7، وهو جزءٌ من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. ]
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
لا نجاةَ من هذا الخطر إلا بالتمسكِ بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تحسبَنَّ هذا الأمرَ يَحْصُلُ بسهولةٍ، لا بد أن يكونَ فيه مشقةً.
لكن يحتاج إلى صبرٍ وثباتٍ، وإلا فإن المتمسك بالحقِّ - خصوصًا في آخر الزمان - سيعاني من المشاق، ويكونُ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ، كما صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم (1)
___________
(1) [ أخرجه الترمذي: (2260)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (195) عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمانٌ، الصابرُ فيهم على دينه كالقابِضِ على الجمر " وفيه: عمر بن شاكر: ضعيف، كما في " التقريب ".
والحديث حّسَّنَهُ السيوطي كما في " الجامع الصغير ": (9988)، وأورده الألباني في " الصحيحة " برقم: (957) وصَحَّحَه.
وللحديث شواهد:
الأول: أخرجه أحمد في مسنده (2/390 - 391) عن أبي هريرة مرفوعًا، ولفظه: " ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب؛ فِتَنًا كقِطَعِ الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع قومٌ دينَهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل، المتمسك يومئذٍ على دينه كالقابضِ على الجمر - أو قال: على الشوك - " وفيه: ابن لهيعة، قال الألباني بعده - كما في الصحيحة: (2/682) -: (قلتُ: وإسناده لا بأسَ به في الشواهد، رجاله ثقات، غيرَ ابن لهيعة؛ فإنه سيء الحفظ).
الثاني: أخرجه الترمذي: (3058)، وأبو داود: (4341)، وابن ماجه: (4063)، والبغوي في شرح السنة : (14/344)، وفي تفسيره : (3/110) بلفظٍ مطوَّل في آخره: ".. فإن من ورائكم أيامًا، الصبرُ فيهنَّ مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملَكم ".
ومدار إسناده على:
1 - عتبة بن أبي حكيم: صدوق يخطئ.
2 - عمرو بن جارية: مقبول.
3 - أبي أُميَّةَ الشَّعْباني الدمشقي: مقبول.
الثالث: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: " يأتي على الناس زمانٌ، المتمسكُ فيه بسنتي عند اختلافِ أمتي كالقابضِ على الجمر ".
قال الألباني بعده - (2/683) " الصحيحة " -: (أخرجه أبو بكر الكلاباذي في " مفتاح المعاني " ق 118/2، والضياء المقدسي في " المنتقى.. ": 99/1... وقد عزاه السيوطي للحكيم الترمذي عن ابن مسعود، وبيض له المناوي !.
وجملة القول: أنَّ الحديثَ بهذه الشواهد - أي: حديثَ أنس السابق - صحيحٌ ثابتٌ، لأنَّه ليسَ في شيء من طرقها متهم، لا سيما وقد حسَّنَ بعضها الترمذي وغيرُه. والله أعلم) اهـ.
قال المباركفوري في شرحه لحديث أنس السابق، في " تحفة الأحوذي ": (6/445): (قال الطيبي: " المعنى: كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبرَ لإحراق يدِه، كذلك المتدينُ يومئذٍ لا يقدرُ على ثباتِه على دينِه؛ لغلَبةِ العصاَةِ والمعاصي، وانتشار الفسقِ، وضعفِ الإيمان " انتهى .
قال القاري: " الظاهرُ أن معنى الحديثِ: كَما لا يمكنُ القَبضُ على الجمرةِ إلا بصبرٍ شديدٍ وتحمل غلبةِ المشقةِ، كذلك في ذلك الزمان، لا يتصوَّرُ حفظُ دينِهِ ونورِ إيمانِه إلا بصبرٍ عظيمٍ " انتهى) اهـ من التحفة. ]،
•┈┈┈┈•✿❁✿•┈┈┈┈•
والمتمسكون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسائرون على منهج السلف؛ يكونون غرباء في آخر الزمان، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " فطوبى للغرباء الذين يُصْلِحُونَ ما أفسدَ الناسُ من بعدي من سنتي ". (1)
وفي رواية: " الذين يَصْلُحُونَ إذا فسدَ الناسُ ". (2)
فهذا يحتاجُ إلى العلم أولاً؛ بكتابِ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلمِ بمنهجِ السلف الصالح وما كانوا عليه.
ويحتاجُ التسمكُ بهذا إلى صبرٍ على ما يلحقُ الإنسانَ من الأذى في ذلك، ولذلك يقولُ - سبحانه وتعالى - :
{وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. [ سورة العصر 1_ 3 ]
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[ سورة العصر 3 ] هذا يدلُ على أنَّهم سيلاقون مشقةً في إيمانهم وعملهم، وتواصيهم بالحق، سيلاقون عنتًا من الناس، ولومًا من الناس وتوبيخًا، وقد يلاقون تهديدًا، أو قد يلاقون قتلاً وضربًا، ولكن يصبرون، ماداموا على الحق، يصبرون على الحق ويثبتون عليه، وإذا تبين لهم أنَّهم على شيءٍ من الخطأ يرجعون إلى الصواب، لأنه هدفُهم.
___________
(1) [ أخرجه الترمذي: (2630) بهذا اللفظ وقال: " حسن صحيح "، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية ": (98)، والبغوي معلقًا في شرح السنة : (1/120 - 121) من حديث عمرو بن عوف - رضي الله عنه -.
وفي سنده كثير بن عبد الله المزني: متروك.
والحديث صحيح من وجوهٍ أخرى؛ فأخرجه مسلم في صحيحه : (145) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعودُ - كما بدأ - غريبًا، فطوبى للغرباء ".
ورواه أحمد: (2/389)، وابن ماجه: (3986)، واللالكائي: (174)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (4)، وابن منده في " الإيمان ": (422 - 423).
ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - :
رواه مسلم: (146)، وابن منده في " الإيمان ": (421).
ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :
رواه أحمد: (1/398)، والترمذي: (2629)، وابن ماجه: (3988)، والدارمي: (2758)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (2)، والبغوي في شرح السنة : (64).
وأخرجه أحمد (1/184) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
وأخرجه ابن ماجه: (3987)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (5) من حديث أنس - رضي الله عنه -. ]
(2) [ أخرج الحديثَ بهذا اللفظ:
الطبراني في " الكبير ": (7659)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (5) من حديث أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وفي إسناده كثير بن مروان الشامي: متروك.
وأخرجه اللالكائي: (173)، والطبراني في " الأوسط " كما في المجمع: (7/278) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وفيه: أبو عياش النعمان المعافري: مجهول.
ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - :
أخرجه أبو يعلى في مسنده . ذكره في " المطالب العالية " لابن حجر: (483).
ومن حديث عبد الرحمن بن سنة:
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في " الزوائد ": (4/73 - 74)، وابن عدي في " الكامل ": (4/1615).
ومن حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - :
أخرجه الطبراني في " الكبير ": (6/202)، وفيه: بكر بن سليم الصواف: ضعيف.]
________________________
لمحة عن الفرق الضالة
محاضرة ألقاها الشيخ: صالح الفوزان بمدينة الطائف، يوم الاثنين، الموافق: 3/3/1415 هـ في مسجد الملك فهد بالطائف
إعداد المكتبة الشاملة مع التعديل
تعليقات
إرسال تعليق