سلسلة أخلاق المسلم من شرح كتاب الأدب المفرد الشريط الثاني
سلسلة أخلاق المسلم
من شرح كتاب: الأدب المفرد
للشيخ العلَّامة / مُحمَّد ناصر الدِّين الألبَاني
(رحمه الله)
الشريط الثَّاني
[ لعن الكافر]
عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه، لَعَن بَعضَ رَقِيقِهِ فَقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بَكرٍ اللَّعَانُون والصِّديقُون؟) هكذا الرواية عند المصنِّف وهي عند غيره كالبيهقي في شعب الإيمان بنصٍّ أوضح وأظهر، قال: (ألعَّانون وصدِّيقون؟) يعني هما أمران لا يجتمعان، أنت صدِّيق وأنت أيضًا وأنت أيضا تلعن؟؟ (كلاّ ورَبِ الكَعبَة)، أمران لا يجتمعان، مَرتَين أو ثلاثًا أي كرّر هذه الجملة ﷺ (ألعَّانون وصدِّيقون؟، ألعَّانون وصدِّيقون؟ ألعَّانون وصدِّيقون؟، كلاّ ورَبِ الكَعبَة) ، فماذا فعل أبو بكر -رضي الله عنه- قال: - فيما يدل على قوَّة إيمانه وصحَّة صدِّيقيته- (فَأعتَق أبُو بَكر رضي الله عنه يَومئذٍ بَعضَ رَقِيقهِ) كفَّارةً للعنه رقيقٍ من أرقَّائه بغير حقٍّ، وبعد ذلك أكمل أبو بكر -رضي الله عنه -في مسارَه في توبته حيث جاء في آخر هذا الحديث، ثُم جَاء النبيَ صلَّى الله عليه وسلم، فَقالَ: (لا أَعُود)، فهو لم يتُب بينه وبين ربِّه فقط بأن أعتق بعض رقيقه بل هو أيضًا بعد أن فعل ذلك سارع إلى النَّبي ﷺ مُظهرا له ندمه على ما فعل وعزمه على ألَّا يعود.
فدرسنا اليوم في الباب التاسع والأربعين بعد المائة وهو باب لعن الكافر أمّا الباب السابق ففيه حديث ضعيف ولذلك تجاوزناه، أمَّا هذا الباب فورد فيه حديثًا واحدًأ صحيحًا بإسناده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((قيل: يا رسول الله ادع الله على المشركين قال: (إني لم أُبعث لعَّانا ولكن بُعثت رحمة)). ترجم المصنف -رحمه الله- لهذا الحديث بترجمة ليس فيها بيان حُكم لعن الكافر؛ لأنه قال: باب لعن الكافر، لم يقل باب جواز لعن الكافر أو باب عدم جواز لعن الكافر؛ وذلك لأن المسألة أولاً مختلف فيها، وثانياً لأن الأصل -كما سبق في درس مضى - أن المسلم ينبغي ألا يُعوّد لسانه أن يلعن غيره حتى ولو كان إبليس رجيم.
وفي ظنِّي أن هذا الحديث كان من آثار تأديب رب العالمين لنبيّه الكريم، فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس وغيره أن النبي صلَّى الله عليه وسلم كان أرسل مرَّة سريَّة فيها نخبة من أفاضل الصحابة، فلما أتَوا قبيلة من القبائل أمّنوهم ثم غدروا بهم فقتلوا منهم سبعين صحابياً من أفاضل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قرّائهم وحفّاظ القرآن الكريم، فلما بلغ خبرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم حزِن حُزناً شديداً، حتى قال أنس بن مالك: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدَ على شيء - أي حزن على شيء- وَجده على أولئك الصحابة)، ولقد كان حزن النبي صلَّى الله عليه وسلم على أولئك الصحابةأوأأأأاااا لسببين:
السبب الأوَّل: أنهم كانوا -كما ذكرنا -من عبّاد الصحابة ومن قرّائهم
والسبب الثاني: أنهم قُتلوا غدراً ولم يُقتلوا وهم يلاقون وجه العدو وجهاً لوجه، وإنَّما غدر بهم أولئك الكفار؛ ولذلك وجد النبي صلَّى الله عليه وسلم وحزِن حزناً شديداً فكان يدعو عليهم ويلعنهم في كل صلاة من الصلوات الخمس، حتى نزل قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم -ذهبت الآية عن ذهني - وإنما هؤلاء الذين تدعو عليهم ليس عليك هداهم ولكن الله -عز وجل -قد يهديهم هذا معنى الآية ولعلي أذكرها فيما بعد.
ثم اقتضت حِكمة الله -تبارك وتعالى- أن النبي صلَّى الله عليه وسلم بعد أن قنَت على أولئك الأقوام شهراً كاملاً وأُنزل عليه تلك الآية، وإذا بالقوم يرجعون مسلمين، فظهر السر في نزول الآية على النبي صلَّى الله عليه وسلم، كأن الله -عز وجل -لا يريد من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يظل يدعو عليهم ويلعنهم، فكانت النتيجة أن أولئك الأقوام الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلعنهم عادوا مسلمين، فهنا السر يَكمُن في أنه لا يجوز أو لا يُستحب -على الأقل- أن يلعن المسلم كافراً بعينه لاحتمال أن يعود مسلماً، واحتمال آخر أن يصير إسلامه خيراً من المسلم الذي ورث إسلامه عن آبائه وأجداده، فالظاهر والله أعلم أن هذا الحديث كان من بعد ما أدّب الله -عز وجل- نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك الأدب، حيث نهاه أن يظل وأن يستمر في لعن الكفار، فحينما طُلب منه صلى الله عليه وسلم أن يلعن الكفار كان جوابه بهذا الحديث (لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة)، فهو صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يُريد أن يَقرُن القول مع العمل والعمل مع القول، فكما أن دعوته صلى الله عليه وسلم رحمة كما قال –عز وجل - ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ أي بدعوته، بشريعته، كذلك هو يريد أن يكون رحيماً مع الناس حتى في لفظه فهو لا يلعنُ حتى المشركين الذين يعادون الله ورسوله، لا يلعنهم أولاً لأن اللعن ليس فيه كبير فائدة،وثانياً لما ذكرناه سابقاً أنه من المحتمل أن يعود هؤلاء الكفار مسلمين، وكلنا يعلم أن كل الصحابة الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً، كانوا مشركين ومنهم من عاداه صلى الله عليه وسلم أشد العِداء كعمر بن الخطاب مثلاً مع ذلك صار فيما بعد من أكبر الناس وأقواهم إيماناً بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ديدنه لعن الكفار ولعن المشركين الذين كانوا يعادونه لظهر التناقض في النهاية هؤلاء الذين يلعنهم وإذا بهم يصبِحون مسلمين مؤمنين. فاقتضى حُسن أدب الرسول صلى الله عليه وسلم مع النَّاس ألا يستعمل لفظة اللعن حتى مع الذين يستحقون اللعن من الكفَّار، وهنا نقول كما قال رب العالمين: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21]
--------------------------
[الطعن في الأنساب ]
جاء في صحيح البخاري وغيره أنه (من رأى ما لم يرى - يعني من ادَّعي أنه رأى في المنام كذا وكذا -وتبرّأ من نسبه فهو من أفرى الفري)،
يعني من أكذب الكذِب، شيئان اثنان:
- أن يتبرّأ الإنسان من نسبه
- وأن يزعُم بأنه يرى في المنام كذا وكذا وهو لم ير شيئا
فكما أنه تبرُء الإنسان من نسبه من الكبائر فالطَّعن في نسب المُنتسب إلى نسل ما هو أيضا من الكبائر، فكما لا يجوز المسلم أن يتبرّأ من نسبه لمصلحة -طبعا- مزعومة، كذلك لا يجوز الطعن في نسب هذا المنتسب، وهذا الطعن -كما شرحت آنفا -يُمكن أن يُفسّر بتفسيرين:
- طعن بصورة عامَّة سواء كان شريف أو غير شريف، كأن يُقال أن فلان ما هو ابن فلان، هذا معناه أنه ابن حرام.
- أو يُقال أن هذا منسوب وهو غير منسوبًا، أيضا هذا طعن في النسب؛ لأن الناس مؤمَّنون على أنسابهم.
نحن ليس علينا شيء أننا إذا قبلنا دعوة مدَّعي أنَّه منسوب إلى الحَسن أو الحسين، فلو فرضنا أنه كان صادقًا في ذلك فطعنَّا في نسبه، فنكون حينذاك قد ارتكبنا كبيرة من الكبائر، وإن كان كاذبًا فوزره على نفسه ويكون هو ارتكب هذه المعصية الكبيرة، فإذن الطعن في الأنساب هو من الكبائر ومن خِصال الجاهلية الأولى.
وهذه الخِصال التي كان عليها أهل الجاهلية منها: التفاخر بالأنساب، واحد يقول أنا أبي فلان، وجدِّي فُلان وأنت رجلٌ لا أصل لك، ولا نسب لك ولا حسب لك. فخصلتان متقابلتان:
- الافتخار بالأنساب وهو من عمل الجاهلية
- والطعن في الأنساب أيضا يُقابل ذلك الفخر بالأنساب
فكلاهما من أعمال الجاهلية وكلاهما من المحرَّمات، فينبغي على المسلم ألَّا يقع في شيء من هذه الخِصال الجاهلية لاسيما وهو من أدب الإسلام قوله عليه الصلاة والسلام (من بطَّأ به عمله لم يُسرع به نَسَبه) فنسب الإنسان وإن كان له شرفه من حيث الدنيا لكنه لا يُفيده شيئا في الآخرة أبدًا؛ ولذلك اشتهر عن بعض العلماء من السلف أو الشعراء الذين أوتوا شيئا من العلم حيث قال:
لسنا وإن أحسابنــــا كرمت *** يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني *** ونفعـــــل مثلما يفعلـــــوا
هذا هو التوجيه الإسلامي الصحيح، فإذن لا يجوز الطَّعن في النسب، ولا يجوز الافتخار بالنسب، ولا يجوز الاعتماد أيضا على النَّسب؛ لأن الذي يُفيد المسلم إنما هو عمله .
[هجرة الرجل ]
يقول المصنِّف –رحمه الله – في الباب الثامن والثمانين بعد المائة، باب هِجرة الرجل، روى بإسناده الصحيح عن عوف بن الحارث بن الطُفيل، وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها، أن عائشة حُدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: ((والله لتنتهين عائشة أو لأحجِّرنَّ عليها ، فقالت: أهو قال هذا؟، قالوا: نعم، قالت عائشة: هو لله عليَّ نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا، فاستشفع ابنُ الزبير بالمهاجرين حين طالت هجرته إيَّاها، فقالت:
(والله لا أشفِّع فيه أبدا ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابنِ الزبير كلَّم المِسوَر بن مَخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زُهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتُماني على عائشة، فإنها لا يَحلُّ لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المِسوَر وعبد الرحمن مشتملَين عليه بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، أندخل؟، فقالت عائشة: ادخلوا ! قالوا: كلنا يا أم المؤمنين؟، قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابنُ الزبير الحِجاب، فاعتنق عائشة وطفِقَ يناشدُها ويبكي، وطفِق المِسور وعبد الرحمن يناشدانها إلَّا ما كلمتِه وقبلتِ منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عمَّا قد علمتِ من الهُجرة فإنه لا يَحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، قال: فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طَفقت تذكرهما نذرها وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلَّمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تَبُل دموعها خمارها)).
هذا الحديث فيه عبرة وبيان لِما كان عليه سلف هذه الأمَّة من قيامهم بواجب الشرع حتى كان يهجر المرء أخاه و قريبه كل ذلك في سبيل الله -عز وجل-، هذا الحديث أورده المصنِّف تحت باب هِجرة الرجل، يعني إهماله ومقاطعته وعدم مكالمته، كأنَّه يقول: هل تجوز هِجرة الرجل ومُقاطعته في الإسلام فيأتي بهذه القصَّة حيث فيها التصريح بأن السيدة عائشة -رضي الله عنها - فقاطعت عبد الله ابن الزُبير وهي تكون له خالته؛ لأن عائشة أختُها أسماء وعبد الله هو ابن أسماء التي كانت تحت الزُبير بن العوَّام.
فيقول عوف ابن الحارث ابن الطُفيل وهو ابن أخي عائشة لأمِّه، الطُفيل الذي ينتمي إليه راوي هذا الحديث وهو عوف بن الحارث ابن الطفيل، وابن الطفيل هذا يكون ابن أخي عائشة لأمِّها، فعائشة أمُّها أم رمان وكانت هذه تحت رجل مات في الجاهلية اسمه الحارث أو عبد الله –اختلفوا في اسمه- وكان حليفا لأبي بكر الصدِّيق –رضي الله عنه -على قاعدتهم في التحالف والتحزُّب يومئذٍ، فمات هذا الرجل وكانت أم رمان زوجته، فتزوجها أبو بكر الصدِّيق بعد وفاة زوجها الأوَّل، فرُزِقَ أبو بكر الصدِّيق من أم رمان هذه السيدة عائشة.
هذه القصّة يُحدِّث بها عوف ابن الحارث بن الطفيل الذي هو ابن أخي عائشة لأمِّها أم رمان، أن عائشة رضي الله عنها حُدِّثت يعني بلغها أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: (والله لتنتهينَّ عائشة أو لأحجرنَّ عليها) السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت كريمة جدًّا، وكانت هي وبعض ضرَّتها من نساء الرسول ﷺ يتسابقان في الجود والكرم، ولكن كانت عائشة جودُها بالجملة، أمَّا ضرَّتها –وأظن زينب رضي الله عنها – فكان جودها على خلاف ذلك.
ولكن نُسِّيتُ شيئا كان قد مرَّ معنا حديث بهذا المعنى في درسٍ سابقٍ إن عائشة رضي الله عنها كانت تجمع تجمع ثم توزِّع، وتلك ما يكون في يدها شيء إلَّا تُصرفه، وكذلك في حديث مضى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ نفسه، قَالَ: " مَا رَأَيْتُ امْرَأَتَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ - أختها - وَجُودُهُمَا مُخْتَلِفٌ، أَمَّا عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَجْمَعُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ، حَتَّى إِذَا كَانَ اجْتَمَعَ عِنْدَهَا قَسَمَتْ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ فَكَانَتْ لا تُمْسِكُ شَيْئًا لِغَدٍ "
وبناءًا على هذا الجود الذي كانت تجود به السيدة عائشة -رضي الله عنها- ذات يومٍ أعطت عطاءًا كريما سخيًّا –فيما يبدو أو باعته بثمنٍ بخس، الراوي يشكُّ هل كان ذلك عن طريق البيع أم العطاء، لكن كيف ما كان الأمر، عبد الله بن الزبير لم يتحمَّل هذا التصرُّف من خالته فحلَف بأنَّه إمَّا أن تنتهي من مثل هذه التصرُّفات الغير معقولة، أو لأحجِّرَنَّ عليها، والتحجير -كما لا يخفى عن الجميع - هو فرض الحجر على إنسان يُسيء التصرُّف في ملكه الخاص فيُعطَى منه الشيء القليل الذي يُقيته ويُعينه، وباقي المال يظل في يد وصي عليه، ولا يخفي حينئذٍ أن كلام عبد الله بن الزبير فيه إساءة للسيدة عائشة وفيه طعن فيها، وكأنها سفيهة لا تُحسِن التصرُّف في مالها؛ لذلك كان جزاء عبد الله بن الزُبير من خالته السيدة عائشة -رضي الله عنها -أنها قالت: لما وصلها قوله: (لتنتهينَّ عائشة أو لأحجرنَّ عليها)، قالت عائشة: (أهو قال هذا ؟، قالوا: نعم، قالت: هو لله عليَّ نذرٌ ألَّا أكلِّم ابن الزبير أبدا)، هذه هي المُقاطعة، حلفَت مادام إنه ابن أختها وهو أصغر منها سنًا قال هذا الكلام الثقيل في حقِّها، و الذي ما فيه تقدير لجلالة عِلمها وانتسابها إلى زوجات الرسول ﷺ ونحو ذلك من الخِصال المُشرِّفة حلفت ألَّا تُكلِّم ابن الزبير طيلة حياتها.
ولا شك إن هذا اليمين صعب جدًّا، ولذلك جاء في بعض الروايات أنه لما اضطرها من زارها مثل المِسوَر وغيره -شفعاء دخلوا عليها كما جاء في القصَّة - فاضطَّروها إلى أن تحنث في نذرها، كانت تتمنَّى أن يكون نذرها ألطف من أنَّها لا تكلمه أبد الحياة، فحلفت على كل حال هذا اليمين وهو نذر، فاستشفع بن الزبير بالمهاجرين حين طالت هجرته إيَّاه، عبد الله بن الزبير لم يتحمَّل، ضاق ذرعا، أصابه قريب ممَّا أصاب الثلاثة الذين خُلِّفوا، (حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) [التوبة:118] فابن الزبير كأنَّه أصابه شيء من هذا القبيل فتضجَّر من مقاطعة خالته إيَّاه ، وأدخل شفعاء ووسطاء بينه وبينها من أجل أن يكلموها حتى تقطع الهجرة له وتكلِّمه، فكانت هي تأبى وتقول: (والله لا أشفِّع فيه أحدا أبدا، ولا أتحنَّث إلى نذري) يعني ما احنث في نذري وفي يميني، فلا أكلمه أبدا ولا أقبل فيه شفاعة الشافعين، فلمَّا وصل ذلك ابن الزبير كلَّم المِسوَر بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما بن بني زُهرة يعني من القبيلة التي تنتمي إليها السيدة عائشة -رضي الله عنها- من طريق أبيها فهم أقارب اتوسَّطوا لحل المشكلة، فقال لهما ابن الزبير –قال للوسيطين المسور وعبد الرحمن-:(أنشدكما بالله –أسألكما بالله -لما أدخلتماني على عائشة فإنَّها لا يحلُّ لها أن تنذر قطيعتي) يعني يترجَّاهم ويقسم عليهم بالله -عز وجل- إنهم يكونوا واسطة وطريقة ووسيلة يدخِّلوه على السيدة عائشة بدون علم منها، فماذا فعلا؟؟
فأقبل به المِسوَر وعبد الرحمن مُشتملَين عليه بأرديتهما – حطُّوه –الظاهر – بينهما ولفُّوه في مثل عباءة أو مثل بطانية [...] بحيث إنه ما ينتبه أحد أن هناك شخص ثالث بحيث إنه لا أحد يعلم، فجاءوا إلى دار السيدة عائشة واستأذنوا في الدخول بقولهما: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، (أندخل؟)، هذا هو أدب الإسلام إنّه ما يجوز الدخول إلَّا بعد الاستئذان وبعد السلام، فكان جوابها: (ادخلوا) فقالوا يستعملوا معها السياسة قالوا: (كلنا يا أم المؤمنين؟)، قالت: (نعم ادخلوا كلكم)، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابنُ الزبير الحِجاب، شو معنى دخل ابن الزبير الحجاب؟؟ يعني لمَّا النَّاس الأجانب يستأذنوا على أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها- الذين هم ليسوا بمحارم لها فبتكون قاعدة وراء حجاب –ستارة- هي تكلّمهم وهم يسمعوا صوتها ولا يروا [شخصها]، فلمَّا اتخذوا هذه الحيلة عليها، فلمّا دخلوا وقفوا وراء حجاب وهو دخل الحجاب وهجم على خالته وقبّلها وعانقها معانقة –طبعا – ابن الأخت فاعتنق عائشة وطفِقَ يناشدُها ويبكي، وطفِق المِسور وعبد الرحمن يناشدانها إلَّا ما كلمتِه وقبلتِ منه، يعني طلبوا بقطع المقاطعة ويقولان -هنا الشاهد -: (إن النبي صلَّى الله عليه وسلم نهى عما قد علمتِ من الهُجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) كأنهما يقولان لها اقبلي طلب ابن أختك عبد الله واقطعي مقاطعتك إيَّاه لأنِّك تعرفي ما بنعلِّمك إن الرسول ﷺ قال: لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، وأنت قاطعتي ثلاثة، وثلاثين، وأكثر من ذلك، فاقطعي هذه المقاطعة فكانت تُجيبهم بعد أن أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما نذرها وتبكي وتقول: (إنِّي نذرت والنذر شديد) - يعني يصعب عليَّ أن أحنث في نذري فأنا حلفت ألَّا أكلِّم ابن الزبير أبدا نذر لله -عز وجل -والله أثني على الذين ينذرون بالخير فقال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) [الإنسان:7] كأن السيدة عائشة تقول جواب احتجاج المسفر وعبد الرحمن عليها لأن الرسول قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فانت بتخالفي الشريعة هنا فيكون جوابها إنه أنا ما كانت مقاطعتي لابن الزبير من باب التنفيس عن النفس والتشفِّي الذي يسمح الشارع فيه بثلاث ليالي فقط، يعني واحد يزعل من الثاني لسبب وقد يكون من أتفه الأسباب فيقاطعه فالشارع ربنا -عز وجل - الحكيم الرؤوف بعباده الرحيم يراعي طبائع البشر فيسمح بالهجر ثلاث أيام فقط أما بعد الثلاث أيام يحرُم هذا الهجر.
فالسيدة عائشة لمَّا احتجُّوا عليها بهذا الحديث فقالت: أنا هجري إياه تأديب له؛ لأنه لم يحترم خالته ولم يحترم العلاقة التي بينها وبين الرسول عليه السلام باعتبارها زوج له، فأنا قاطعته هذه المقاطعة الطويلة وحلفت ألَّا أكلمه أبدا تأديبا له، فتمّ المناقشة بين السيدة عائشة والوسيطين حتى خضعت لطلبهما وكلَّمت ابن الزبير ابن أختها أسماء، فهنا بطبيعة الحال حنثت في نذرها، حينئذٍ يجب عليها أن تُكفِّر عن حنثها، وفي سبيل هذا التكفير ماذا فعلت؟؟ أعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، فلم تعتق رقبة واحدة، بل أربعين شخص كانوا عبيد أرقَّاء تقرَّبت إلى الله -تبارك وتعالى- في عتقهم وتحرير رقابهم تكفيرًا لنذرها الذي كان ألَّا تُكلِّم ابن الزبير وكانت تذكر –بعد هذه القصَّة - نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبُل دموعها خمارها) وفي رواية للبخاري في الصحيح بأنها كانت تقول وتود أن يكون نذرها من نوع آخر غير هذا النذر الَّا تكلِّم ابن الزبير أبدا، لأنه إذا كان النذر مثلا ألَّا تكلمه اسبوعا، أسبوعين ممكن، أما أبد الحياة فهذا صعب، وبهذا ننهي ما حكم هجرة المسلم ومقاطعته.
----------------------------
[النهي عن تعاطي أسباب فرقة المسلمين]
روى بإسناده الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللهِ إخوانا، ولا يَحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوقَ ثلاث ليال)
نهى الرسول ﷺ في هذا الحديث وأحاديث أخرى تأتي بعضه عن تعاطي الأسباب التي تؤدِّي المسلمين إلى التباغض والتحاسُد والتدابُر. التباغض والتحاسُد معناه واضح، بالقيد الذي ذكرته آنفا وهو أن المقصود من النهي عن التباغض، النهي عن تعاطي أسباب التباغض التي تؤدِّي إلى التباغض.
وكذلك قوله: (لا تحاسدوا) أي لا تتعاطوا أسباب التحاسد، (ولا تدابروا) كذلك لا تتعاطوا أسباب التي تؤدي بكم إلى أسباب التدابر والتقاطع.
ثم قال عليه السلام: (وكونوا عباد اللهِ إخوانا، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجُر أخاه فوق ثلاث ليال) كنَّا روينا الدرس الماضي قِصّة السيدة عائشة -رضي الله عنها -مع عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- بسبب تصريحه بأنه سيُحجِّر عليها إن استمرَّت في الصدقة والعطاء، وقد جاء في ذاك الحديث أن الوسطاء قد ذكَّروا السيدة عائشة بمثل هذا الحديث، فهنا يأتي الحديث برواية أنس بن مالك بعد نهي الرسول ﷺ عن التباغض والتحاسد والتدابر وبعد أمره بقوله:(وكونوا عباد اللهِ إخوانا) قال: (ولا يَحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) فهذا الهجر المنهي عنه إنما هو الهجر انتصارا للنفس أي بدون سبب شرعي أمَّا إذا كان هناك سَببٌ شرعي فتعاطاه بعضُ المُكلَّفين من المسلمين ورأى أن مُقاطعة المُخالف للإسلام في بعض أحكامه يؤدِّي إلى تعزيره وإلى تأديبه فمثل هذه المقاطعة لا يُنهى عنها وليست من هذا النوع الذي جاء في هذا الحديث (ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال). فالهجر فوق ثلاث إنما يجوز لعذر شرعي، كما جاء في قصة (الثلاثة الذين خُلِّفوا) وهي قصَّة معروفة في صحيح البُخاري وغيره، حيث أمر الرسولُ ﷺ بمقاطعة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وكانت المقاطعة خمسين يوما كاملة.
فلا تعارض بين مثل هذه المقاطعة التي جاءت في قصّة (الثلاثة الذين خُلِّفوا) من جهة وبين هذا الحديث وما في معناه من النهي عن التهاجر بعد ثلاث من جهة أخرى، أي إن التهاجر المنهي عنه هو غير التهاجر المشروع الذي جاء في قصة (الثلاثة الذين خُلِّفوا) هو الذي جاء في قصِّة عائشة رضي الله عنها مع عبد الله بن الزبير، فالتهاجر المنهي عنه هو الذي يدفع صاحبه إليه إنَّما هو الثأر للنفس والغضب لها دون عذر شرعي، أمَّا التهاجر المشروع فهو الذي يدفع صاحبَه إليه إنَّما هو أمرٌ شرعي، ففي قصِّة تبوك كان أمر الرسول ﷺ بمهاجرة الثلاثة تأنيبًا وتأديبًا لهم لأنهم تأخَّروا عن مناصرة رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، كما أن السيدة عائشة رضي الله عنها إنَّما هجرت ابن أختها عبد الله بن الزبير لأنه تكلَّم في حقِّها كلامًا لا يليق بأم المؤمنين، فلا تعارُض إذن بين هذا الحديث: (ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) وبين الهجر الذي يدفع إليه أمرٌ أو سببٌ شرعي.
لكن الحقيقة أن هذه النُّقطة يجب ألَّا يتورَّط المسلم أن يُبرر لنفسه مقاطعة أخيه المسلم بحُجَّة أن هذه المقاطعة إنَّما يدفع إليها انتصار الشرع، النفس أمَّارة بالسوء فينبغي على المسلم أن ينتبه لما وقع فيه من المقاطعة والمُهاجرة هل هي حقَّا في سبيل الله -عز وجل- فتكون جائزة أم هي انتصار للنفس فتكون محرَّمة إلّا أن هذا التحريم هو بعد الثلاث ليال، وهنا نُكتة ولطيفة من لطائف الشرع؛ لأن النبي ﷺ حدَّد الهجرة المُحرَّمة بعد الثلاث، ومعنى هذا أن الهجرة قبل الثلاث جائزة ولو كانت انتصارًا للنفس وذلك من لطف الله -عز وجل- لعباده؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه فجأة وكأن الشارع الحكيم رخَّص للإنسان فيما إذا غُلِب على أمره، ووصل الأمر به إلى أن يهجر أخاه المسلم فتسامح الشارع معه أن يهجر أخاه المسلم ثلاث ليال فقط، أمَّا بعد الثلاث ليالي فذلك حرام، كأن الشارع يقول سمحنا لك بثلاث ليال فحسبُك هذا فما بعد الثلاث فإذا استمررت على مهاجرة أخيك المسلم فأنت عاصٍ مرتكب لمُحرَّم.
حديث عطاء بن المزيد الليثي ثم الجندعي أن رسول الله ﷺ قال: (لا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيصُد ويصُدُّ هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فهذه الجملة الأخيرة تضمَّنت هذا الخبر الشرعي، إذا تهاجرا اثنان ووصلت بهما المهاجرة أنهما إذا التقيا فهذا يُعرِض عن هذا وهذا يُعرِض عن هذا بُغضا وحِقدا، وهذا مُحرَّم بعد ثلاث ليال، فمن خير هذين المتهاجرين؟؟، قال: من يبدأ بالسلام، هذا هو الأفضل لأنه يُجاهد نفسه ويحملها على مواصلة أخيه من جديد و[يهضم] نفسه ولا يثأر لها بعد الثلاث ليال، فقال عليه السلام في وصف التهاجر: (يلتقيان فيصد ويصدُّ هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
-------------------------
ثم روى المصنِّف حديثا آخر عن أبي هريرة بإسناده الصحيح عن النبي ﷺ قال: (لا تباغضوا ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانا) هذا الحديث الثالث جاء في الحديث الأول، حيث في الحديث الأول (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) هنا رواه باختصار ولكنه جاء بلفظة جديدة حيث قال: (لا تباغضوا ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخوانا)، ما معنى: (ولا تنافسوا) ؟، لا تنافسوا على ميزان: لا تباغضوا، وقلنا في تفسير لا تباغضوا أي لا تتعاطوا أسباب التباغض كذلك قوله علي السلام: (لا تنافسوا) أي لا تتعاطوا أسباب التنافس، والتنافس: إنما هو من معنى الرغبة في الشيء والحب له، ومحاولة الانفراد به ، هذا الشيء النفيس، فهذا التنافس وهذا يحب محاولة التفرُّد بهذا الشيء النفيس كالمال مثلا أو العطاء أو ما شابه ذلك، وذاك يُحب كذلك، فسيؤدي هذا التنافس إلى التحاسُد، وهذا ما أشار إليه الرسول ﷺ في حديث في صحيح مسلم أخبر أن أمته ﷺ في آخر الزمان يقعون في هذا التنافس المنهي عنه فقال ﷺ : (تتنافسون ثم تتحاسدون)، هذا الحديث في صحيح مسلم كالتفسير لقوله في هذا الحديث: (ولا تنافسوا) أي لا يحاول كل منكم أن ينفرد بالشيء النفيس وإن فاز به عن غيره فإنَّ ذلك يؤدِّي بكم إلى أن تتحاسدوا وذلك يؤدي بكم إلى أن تتباغضوا، وذلك كله يؤدي بكم إلى أن تتفرَّقوا والله –عز وجل- أمركم أن تكونوا إخوانا في الله –تبارك وتعالى- كما قال: (وكونوا عباد الله إخوانا).
-----------------------
ثم روى حديثا صحيحا فيه معنى جديد وتشريع جديد، روى بإسناده عن أنس أن الرسول ﷺ قال: (ما توادَّا اثنان في الله –جلَّ وعلا - أو في الإسلام فيُفرِّق بينهما أول ذنب يُحدثه أحدهما) هكذا لفظ الحديث وقع في الكتاب، فمن كان عنده نسخة من كتابنا هذا الأدب المفرد فعليه أن يُصحح هذه الكلمة لأنه لا معنى لها، قوله: (فيُفرِّق بينهما أول ذنب يُحدثه أحدهما) كتبت أنا هنا في التعليق عندي كذا أي الأصل، ومرَّ عليه الشارح [...] وفي الجامع الصغير برواية المصنِّف (إلَّا بذنبٍ)، أي يُصبح الفقرة الأخيرة بلفظ (فيُفرِّق بينهما إلَّا بذنب يُحدثه أحدهما) أي بدل كلمة (أول ذنب) ، الصواب: (إلَّا بذنب يُحدثه أحدهما)، وحينئذٍ يظهر معنى الحديث أي إنَّه إذا عاشا اثنان متحابَّان في سبيل الله -عز وجل- ما شاء الله من زمن طويل مديد فلا يُمكن أن تقع الفرقة بينهما والاختلاف والتدابر إلَّا بذنبٍ يُحدثه أحد هذين المتحابَّين في الله؛ لأنه ما كان لله فهو متَّصل –كما يقولون – فما دام أن اثنين من المسلمين أو المسلمات تحابُّوا في الله –عز وجل – ثم وقعت المقاطعة بينهما فلابد أن تكون هذه المقاطعة التي وقعت بينهما بسبب ذنبٍ ارتكبه أحدهما فعاقبهما الله –عز وجل – بهذا التباغض وهذا التقاطع.
وغرض الحديث كما هو ظاهر الحرص من المتحابَّين في الله –عز وجل – على أن يستمرَّا في هذا الحب، ولا يقع من أحدهما ما يحدث [انقطع الشريط].
---------------
حديث: (لا يحل لمسلمٍ أن يُصارم مسلمًا فوقا ثلاث، فإنَّهما ناكبانِ عن الحق ما داما على صِرامِهما وإنَّ أوَّلَهُمَا فيئًا يكون كفارة عنه سبقُه بالفيء، وإن ماتا على صِرامهما لم يدخلا الجنة جميعًا أبدًا، وإن سلَّم عليه فأبَى أن يقبَل تسليمَهُ وسلامه، ردَّ عليه الملك، وردَّ على الآخر الشيطان)
هذا الحديث من أحاديث عديدة ذكرها المؤلف -رحمه الله- في هذا الباب في النهي عن مصارمة المسلم للمسلم، الصِّرام:هو المقاطعة، ولكن هذا الحديث من أشدِّ الأحاديث التي الواردة في هذا الباب تحذيرا وتنفيرا عن هذا الذنب، حيث انَّه تضمَّن إخبارا لم يسبق أن ذكره عليه الصلاة والسلام في الأحاديث السابقة، فهو بالإضافة إلى أنَّه قال:
(لا يحلُّ) أي يَحرُم للمسلم
(أن يُصارم): أي يُقاطع مسلما
(فوق ثلاث): أي ليال
فعلَّم الرسول ﷺ هذا النهي بل هذا التحريم للمقاطعة ثلاث أيام بقوله: (فإنهُما ناكبان عنِ الحق) تنكَّب الطريق: بمعنى ابتعد عنه، فهو ناكبٌ عن الحق أي بعيدٌ عنه.
علل النهي والتحريم للمصارمة والمقاطعة بقوله: (فَإِنَّهُمَا –يعني المتقاطعان - نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صِرَامِهِمَا): أي على مقاطعتهما.
(وإنَّ أوَّلَهُمَا فيئا يكونُ كفارةً عنه سَبقُهُ بالفيء) يعني عليه الصلاة والسلام أن المتهاجرَين المتقاطعين الذي يفيء لنفسه ويرجع عن خطؤه إلى الصَّواب يكون ذلك كفَّارة لمقاطعته السابقة.
(وإنَّ أوَّلُهُمَا فيئا يكونُ كفارةً عنه سبقُهُ بالفيء) وما معنى الفيء هنا ؟: كانا متقاطِعَين، وكما جاء في حديث سابق (يلتقيان فيَصدُّ هذا عن هذا وهذا عن هذا) فمن يفيء أوَّلا يكون سبقه للفيء يكون كفَّارة له، والفيء: هو أن يُبادر أخاه الذي كان قد قاطعه بالسلام، يعني إذا مضى على المتقاطِعَين ثلاثة أيَّام التي هي رُخصة من الشارع –كما ذكرنا في الدرس السابق- ثم دخل اليوم الرابع فقد دخل كلاهما في الإثم، فأسبقهما إلى الفييء أي للرجوع إلى الصواب أو الحق فهو كفَّارةٌ له، وذلك بأن يُبادر أخاه بالسلام، هذا هو الفيء، وهذا هو الرجوع عن الخطأ إلى الصواب ، فإذا فعلا ذلك كان كفَّارة لما سبق منه من المقاطعة لأخيه المسلم .
وهنا يُتابع الرسول عليه الصلاة والسلام فيُبيِّن نتيجة تقاطعهما إلى آخر حياتهما فيقول: (وإن ماتا على صِرامهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا)
ما معنى هذا الحديث؟ متبادر هنا معنيان:
المعنى الأوَّل: أن الله –عز وجل – حرَّم عليهما كليهما معًا دخول الجنَّة، لأنهما يموتان على المصارمة والمقاطعة، إذا مات المتقاطعان لم يدخلا الجنة جميعا أبدا، يعني يا يدخلون الجنَّة أبدا، ماذا يعني هذا؟؟ أقول معنيان: المعنى الأول كأحد تأويل مثلا (لا يدخل الجنَّة قتَّات) أو (لا يدخل الجنَّة ديُّوس) ما معنى هذا؟ هذا له عدِّة معاني من جملتها: (لا يدخل الجنَّة قتَّات) الذي هو نمَّام، أو (ديُّوس) معروف من هو، إذا استحلَّ ذلك استحلالا قلبيا، أمَّا إنسان يرتكب الإثم وهو عالم ومعترف بأنَّه آثم، فهذا لا يكون عقابه في الآخرة أن يُحرَم دخول الجنَّة البتَّة وإنَّما يتأخَّر في دخول الجنَّة، هذا معنى ممكن أن يُقال ها هنا، لن يدخل الجنَّة أبدًا إذا استحلَّ التدابُر والتقاطُع.
والمعنى الثاني وهو الصحيح (لم يدخلا الجنة جميعا أبدا) أي مع بعض، يعني الجزاء من جنس العمل، كما أنهما حكما على أنفسهما في الحياة التي ابتعد أحدهما عن الآخر، فعاش كل منهما بعيد عن الآخر هاهنا في الدنيا مع علمهما بتحريم الشارع الحكيم لذلك عليهما، فسيكون عقابهما عند الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة أنَّهما إن دخلا الجنّة عاش كلُّ منهما بعيد عن الآخر ولن يدخلا الجنة جميعا أبدا، إنَّما هذا من هنا وهذا من هنا ولا يلتقيان أبدا، وهذا عقاب من الله –عز وجل – ومجازاة منه من جنس العمل لكل منهما، وهذا المعنى هو المعنى الصحيح؛ لأن في الواقع لفظة (أبدًا) معناها أنهما لا يلتقيان قطعا، وقد ترجَّح عندي هذا المعنى على الرغم أن شارح هذا الكتاب لم يتعرَّض له مطلقا أنني وجدتُ في رواية للإمام أحمد بدل قوله في رواية الكتاب: (لم يدخلا الجنة جميعا أبدا)، قال أحمد في إحدى روايتيه: (لم يجتمعا في الجنَّة أبدا)، فهذه الرواية تُفسِّر رواية الكتاب، فيكون معنى (لم يدخلا الجنة جميعا أبدا) أي إنَّهم حين دخول الجنَّة لا يلتقيان وبالتالي طيلة إقامتهما الأبدية في الجنَّة أيضا لا يلتقيان جزاء تقاطعهما بدون عذرٍ شرعيٍ في حياتهما في الدنيا، وهذا كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة (من شرِب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، (ومن لبِس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، (ومن لبس الذهب في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، ذلك مع أن الله –عز وجل – قد ذكر في غير ما آية بأن لباس الجنَّة الذهب والحرير، وقال صراحةً (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [فاطر:33] مع ذلك يستثني ربنا -عز وجل- فيما أخبر به نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم أن من لبس الحرير في الدنيا حُرِّم أن يلبسه في الآخرة، مع أن من نعيم أهل الجنَّة أن يلبسوا الحرير، كذلك الذي يشرب الخمر في الدنيا أي يتعجَّلُها فيُحرَمها يوم القيامة في الجنَّة، إذن هذا من باب الجزاء من جنس العمل، فالمتقاطعان والمُتهاجران إذا ماتا على ذلك ودخلا الجنَّة لم يلتقيا في الجنَّة أبدا وكفَّارة التقاطع كما أفادنا هذا الحديث هو أن يُبادر الذي يريد أن يرجع إلى الله –عز وجل- ويتوب إليه يُبادر أخاه المقاطَع بالسلام، فقد يُصر أحدهما على المقاطعة ولا يريد أن يتوب إلى الله –عز وجل – ولكن الذي يريد أن يتوب فحسبه أن يُبادر ذلك المُقاطَع بالسلام فيكون سلامه عليه رفعًا للإثم السابق والواقع عليه.
تعليقات
إرسال تعليق