فصل

فصل

روى الإمام أحمد عن بريدة قال:

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بـ ( ودّان ) قال:

(( مكانكم حتى آتيكم )). فانطلق، ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال:

(( إني أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة- يعني : لها - فمنعنيها(1)، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )).

ورواه البيهقي من طريق أخرى عنه بلفظ:

انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبرٍ فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى، فاستقبله عمر، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال:

(( هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت ))(2).

قال: فما رأيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة.

ورواه البيهقي من طريق أخرى نحوه.

وهو والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود.
_____________

(1) قلت : وفي رواية لاحمد وابن أبي شيبة (( فدمعت عيناي رحمة بها من النار )) انظر : "أحكام الجنائز" (188) .

(2) قلت : وهو حديث صحيح بمجموع طريقيه  وله أسانيد اخري أحدها صحيح  وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وهو مخرج في "أحكام الجنائز" (ص 188) .



______________________________________________________


وروى مسلم عن أبي هريرة قال:

زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال:

(( استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت ))(1).

وورى مسلم أيضاً عن أنس:

أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: (( في النار )). فلما قفّى دعاه، فقال:
(( إن أبي وأباك في النار ))(2).

_____________

(1) ورواه أحمد وغيره وهو مخرج في المصدر السابق.
  
(2) مسلم (1/ 132- 133 ) وله شواهد منها حديث سعد ابن أبي وقاص الآتي بعده .
وأعلم أن هذا الحديث مع صحة إسناده وكثرة شواهده وتلقي العلماء النقاد له بالقبول له
 فإن الشيخ (أبو زهرة) قد رده بجرأة وجهالة متناهية فقال (1/ 132) :  ( انه خبر غريب في معناه كما هو غريب في سنده لان الله تعالي يقول { وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا } (الإسراء:  15) وقد كان أبو محمد عليه الصلاة والسلام وامه  علي فترة من الرسل فكيف يعذبون ؟!! .... وفي الحق إني ضرست في سمعي وفهمي عندما تصوت ان عبدالله وآمنة يتصور أن يدخلا النار )  !    
فأقول:  يا سبحان الله ! هل هذا موقف من يؤمن برسول الله أولا  ثم بالعلماء المخلصين ثانيا الذين رووا لنا أحاديثه صلى الله عليه وسلم وحفظوها لنا وميزوا ما صح مما لم يصح منها  واتفقوا علي ان هذا الحديث من الصحيح الثابت عنه صلي الله عليه وسلم ؟! أليس موقف ( أبو زهرة ) هذا هو موقف أهل الأهواء - كالمعتزلة وغيرهم - الذين قالوا بالتحكيم والتقبيح العقليين  مما رده عليهم  اهل السنة ؟! والشيخ يزعم أنه منهم فما باله خالفهم وسلم سبيل المعتزلة في تحكيم العقل وردهم للأحاديث الصحيحة لمجرد مخالفتها لاهوائهم إما اصلا وإما تاويلا  اذا لم يستطيعوا رده من اصله ؟! وهذا عين ما فعله الشيخ فإنه رد هذا الحديث لظنه انه حديث غريب فرد ! كما رأيت وتاول أحاديث الزيارة بقوله : ( ولعل نهي النبي صلي الله عليه وسلم عن الإستغفار (لامه) لان الإستغفار لا موضع له إذ أنه لم يكن خطاب بالتكليف من نبي مبعوث ) ! 
 ونحن نقول له كما تعلمنا من بعض السلف اجعل (لعل) عند ذاك الكوكب ! فإن أحاديث الزيارة تدل دلالة قاطعة ان بكائه صلى الله عليه وسلم شفقة عليها من النار وهذا صريح في بعض طرق حديث بريدة  كما سبق ذكره مني في التعليق عليه قريبا  ولذلك علق الإمام النووي علي حديث أبي هريرة منها بقوله في  "شرح مسلم" : ( فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم  بعد والوفاة ففي الحياة اولى وفيه النهي عن الإستغفار للكفار ) 
وقال في شرح حديث أنس هذا : ( فيه ان من مات علي الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين وفيه ان من مات على الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوةُ إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ) 
قلت : وفي كلام الإمام النووي رد صريح على زعم (أبو زهرة) أن أهل الفترة الذين كانوا من قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يعذبون! ومع أن قوله هذا مجرد دعوى, لأنه لا يلزم من صحة القاعدة - وهي هنا أن من لم تبلغه الدعوة لا يعذب - أن الشخص الفلاني أو الأمة الفلانية لم تبلغهم الدعوة, بل هذا لا بد له من دليل كما هو ظاهر, وهذا مما لم يعرج عليه (أبو زهرة) مطلقاً, وحينئذ يتبين للقارئ الكريم كم قد تجنى على العلم حين رد حديث أنس, وتأول أحاديث الزيارة بما يفسد دلالتها بمجرد هذه الدعوى الباطلة؟!
وإن مما يؤكد لك بطلانها مخالفتها لأحاديث كثيرة جدّاً يدل مجموعها على أن الصواب على خلافها, وأرى أنه لا بد هنا من أن أذكر بعضها:
1 - قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار, كان أول من سيب السوائب». رواه الشيخان.
وفي رواية: «كان أول من غير دين إسماعيل».
2 - سألوه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن عبد الله بن جدعان, فقالوا: كان يقرى الضيف, ويعتق, ويتصدق, فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال: «لا, إنه لم يقل يوماً: رب! اغفر لي خطيئتي يوم الدين». رواه مسلم.
3 - أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - مر بنخل فسمع صوتاً (يعني: من قبر) , فقال: «ما هذا؟». قالوا: قبر رجل دفن في الجاهلية فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:
«لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني»، رواه أحمد من طرق عن أنس, وعن جابر, وله شاهد من حديث زيد بن ثابت عند مسلم وأحمد, وهو مخرج في «الصحيحة» (158و159)
4 - حديث رؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - في صلاة الكسوف صاحب المحجن يجر قصبة في النار, لأنه كان يسرق الحاج بمحجنه.
رواه مسلم وغيره, وهو مخرج في «الإرواء» (656).
وفي الباب أحاديث أخرى خرجها الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 116 - 119) , فليراجعها من شاء, وهي بمجموعها تدل دلالة قاطعة على أن المشركين في الجاهلية من أهل النار, فهم ليسوا من أهل الفترة, فسقط استدلال (أبو زهرة) بالآية جملة وتفصيلاً .
وأما قوله في حديث أنس المتقدم أعلاه : ( .... كما هو غريب في سنده ) ! 
فأقول : وهذه دعوي باطلة كسابقتها فالحديث صحيح لا غرابة فيه وحسبك دليلا  انه أخرج في "الصحيح" وإن أراد بذلك غريب بمعني تفرد به واحد فذلك كما لا يضره لان كل رواته ثقات اثبات على ان له شواهد تريده قوة على قوة كما تقدم وانا حين اقول هذا أعلم أن السيوطي تورط وعليه الهوى فاعل الحديث بتفرد حماد بن سلمة به إلى درجة أنه لم يورده في  "الجامع الصغير" ولا في "ذيله عليه" وهو من أئمة المسلمين وحفاظهم وكنت اود ان اطيل النفس أيضا في الرد عليه ولكن طال الكلام فحسبنا منه ما تقدم والله ولي التوفيق .   

  
___________________________
___________________________


وقد روى البيهقي عن عامر بن سعد عن أبيه قال:

جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

 إن أبي كان يصل وكان وكان، فأين هو؟ قال:
(( في النار )).

قال: فكأنّ الأعرابي وجد من ذلك ، فقال: يا رسول

 الله! أين أبوك؟ قال:

(( حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار )).

قال: فأسلم الأعرابي بعد ذلك فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً؛ ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار (1).

والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية؛ خلافاً لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب؛ على ما سيأتي في (وفاة أبي طالب)(2).


وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه (( دلائل النبوة )):

(( وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا بدين عيسى ابن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام(3)؛ لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم؛ فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذ كان مثله يجوز في الإسلام . وبالله التوفيق )).

قلت: وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار؛ لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة؛ كما بسطناه سنداً ومتناً

 في (( تفسيرنا )) عند قوله تعالى : ﴿ وما كنامعذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ [الإسراء: 15].

 فيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة(4)، ولله الحمد والمنة.
______________
(1) قلت : أخرجه الطبراني والضياء المقدسي في "المختارة" وسنده صحيح كما بينة في "الصحيحة" (18) ، وقد استفدت من رواية البيهقي هذه متابعة ثالثة من ابي نعيم الفضيل بن دكين كانت فاتتني فلتنقل الي هناك .     
(2) ساق المؤلف قبل هذا حديث فاطمة رضي الله عنها فى التعزية وقوله لها : " لعلك بلغت معهم الكدي ؟! لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتي يراها جد ابيك " . 
وانا لم يكن على شرطنا اعرض عن ذكره لا سيما وفى متنه نكارة ظاهرة وقد تكلم عليه المؤلف بما يكفي من حيث ضعف إسناده.  
وروى ابن إسحاق هنا (1/ 178) : حدثني العباس بن عبدالله بن معبد عن بعض أهله ان عبدالمطلب توفى ورسول الله ابن ثمان سنين .
(3) قلت : كما لا يقدح فيه انه ينتهي الي إبراهيم عليه السلام  وقد كان أبوه مشركا بنص القرآن {   وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [الأنعام : 74] ولذلك تبرأ منه كما قال الله تعالي {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة : 113- 114] .
(4) قلت : وهذا جمع جيد جدا لانه وان كان من الممكن افتراض أن بعض من كان في الجاهلية قد بلغته الدعوة وأقيمت عليه الحجة على ما جرينا عليه فى تعليقنا السابق وعليه يدل كلام البيهقي الذي نقله المؤلف فإن من الممكن جدا أن نفترض أن بعضهم لم تبلغه الدعوة وحينئذ فامامه الامتحان في  عرصات القيامة فمن نجح فقد نجا وإلا فقد هلك وعلى هذا النوع من الهالكين تحمل الاحاديث التي صرحت بعذاب بعض من مات فى الجاهلية كما تقدم والله أعلم. 
__________________________

صحيح السيرة النبوية
ما صح من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه
بقلم
محمد ناصر الدين الألباني
(رحمه الله تعالى)
الطبعة الأولى
المكتبة الإسلامية
عمان - الأردن





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة