ذكر حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام
ذكر حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام
أخرج البخاري ومسلم عن أم حبيبة بنت أبي سفيان [ أنها ] قالت: يا رسول الله! انكِح أختي بنت أبي سفيان ( ولمسلم: عزة بنت أبي سفيان )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أو تحبين ذلك؟ )). قلت: نعم، لست لك بمخْلِيَة(1)، وأَحبُّ من شاركني في خير أختي. فقال: (( فإن ذلك لا يحل لي )). قالت: فإنا نحدّث انك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ( وفي رواية: دُرّة بنت أبي سلمة ). قال: (( بنت أم سلمة؟! )). قلت: نعم. قال:(( إنها لو لم تكن ربيبتي في حَجْري(2) ما حلت لي، إنها لابْنَةُ أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضنّ عليّ بناتكن ولا أخواتكن )).
زاد البخاري: قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب أعتقها، فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
وروى ابن إسحاق عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك. قال:(( نعم؛ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام.واسترضعتُ في بني سعد بن بكر؛ فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بهماً لنا، إذ أتاني رجلان- عليهما ثياب بيض- بطست من ذهب مملوء ثلجاً، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زِنْه بعشرة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمئة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها ))(6).وإسناده جيد قوي(4).
وقد روى أحمد وأبو نعيم في (( الدلائل )) عن عتبة بن عبد: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال:(( كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي! اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟فقال: نعم. فأقبلاً يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فاخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد ، فغسلا به قلبي، ثم قال:ائتني بالسكينة. فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه. فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوية، فقال أحدهما : اجعله في كفة، واجعل ألفاً من أمته في كفة. فإذا أنا أنظر إلى الألف فوق؛ أشفق أن يخر عليّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني، وفرقتُ فرقأً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله. فرحلت بعيراً لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيتُ، فلم يرُعها، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام ))(5).
وثبت في (( صحيح مسلم )) عن أنس بن مالك:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج معه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلم يسعون إلى أمه – يعني: ظئره- فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس:وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره(6).
وفي (( الصحيحين )) عن أنس، وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء – كما سيأتي – قصة شرح الصدر ليلتئذٍ، وأنه غسل بماء زمزم.ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين: مرة وهو صغير؛ ومرة ليلة الإسراء ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى، ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه سبحانه وتعإلى .والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير ، ثم عادت على هوازن- بكمالهم- فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتّوا(7) إليه برضاعه فأعتقهم، تحنن عليهم، وأحسن إليهم؛ كما سيأتي مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى .
قال محمد بن إسحاق في وقعة (هوازن): عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(حنين)، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم؛ أدركه وفدهوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله! إنا أهل وعشيرة(8)، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله! إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمانبن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك؛ رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين.ثم أنشد
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كرمٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
امْنُنْ عَلَى بيضةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ممزقٍ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
أَبْقَتْ لَنَا الدَّهْرَ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إذ فوك يملاه مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ(9)
وقد رويت هذه القصة عن أبي صرد زهير بن جرول- وكان رئيس قومه – قال:لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ فبينا هو يميزالرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعراً أذكرّه حين شب ونشأ في (هوازن) حين أرضعوه:
امْنُنْ عَلَيْنِا رَسُولَ اللَّهِ فِي دَعَةٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
امْنُنْ عَلَى بيضةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ممزقٍ شملها في دهرها غير
أبقت لنا الْحَرْبُ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إذ فوك تملاه مِنْ مَحْضِهَا الدِّرَرُ
إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهَرُ
إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنْكَ تُلْبِسُهُ هَذِي الْبَرِيَّةَ إِذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاغْفِرْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظفر
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم )).فقالت الأنصار : وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم(10).
وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية، وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثراً.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟!
______________(1) إسم فاعل من الإخلاء ، أي : لست بمنفردة بك ولا خالية من ضرة.
(2) [ بالفتح : التربية والحضانة والرعاية ] . الناشر .
(3) قلت وتمامه في الأصل : " فلما مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خَيبَةٍ ، قَالَ لَهُ : مَاذَا لَقِيتَ ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ : لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ وأشار إلي النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع " .هكذا ذكره ابن كثير من تمام زيادة البخاري ولكن ليس عنده وقوله "وأشار الي النقرة .... " ، إلخ وإنما هي من رواية الإسماعيلي كما ذكره الحافظ ابن حجر. وإنما حذفت هذه الزيادة لأنها ليست علي شرطنا فإنها أولا مرسلة من قبل عروة .وثانيا : انه لو فرض ثبوت وصله الي الرائي فهو مجهول فلا حجة في خبره .ثالثا : انها رويا منام ، فلا قيمة لها ، لا سيما في مثل الكافر أبي لهب الذي انزل الله في ذمه { تبت يدا ابي لهب ... } ولذلك قال الحافظ : " وَفِي الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْكَافِر قَدْ يَنْفَعهُ الْعَمَل الصَّالِح فِي الْآخِرَة ; لَكِنَّهُ مُخَالِف لِظَاهِرِ الْقُرْآن , قَالَ اللَّه تَعَالَ { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنْثُورًا } " [الفرقان : 25]. واجيب بأن الخبر مرسل ارسله عروة ولم يذكر من حدثه به وعل تقدير ان يكون موصولاً فالذي في الخبر رويا منام فلا حجه فيه ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك اسلم بعد فلا يحتج به . ثانيا : على تقدير القبول فيحتمل ان يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً من ذلك بدليل قصة أبي طالب كما تقدم انه خفف عنه فنقول من الغمرات الي الضحضاح ". وأما ما ذكره الشيخ (أبو زهرة) (1/ 121) ان ثويبية كانت أول من أعلم أبا لهب بولادة ابن أخيه محمد فاعتقها لهذه البشري الكريمة فمما لا اصل له في الرواية وإنما علقه المؤلف تعليقاً بدون سند ! .
(4) قلت وهو كما قال وقد مضي الطرف الاول منه (ص 13) مع تخريجه وسيأتي (ص 53 ) .
(5) قلت ورجاله ثقات ، غير أن بقية بن الوليد مدلس وقد عنعنه لاكنه قد سرح بالتحديث في رواية الحاكم (2/ 616 -617) وقال "صحيح علي شرط مسلم"! ووافقه الذهبي! وإنما هو صحيح فقط فإن من رواته بَحِير بن سعد ولم يروي له مسلم وانظر "الصحيحة" (373) .
(6) مسلم (1/ 101 - 102).قلت : وهذا الحديث مع صحته وصحة شواهده التي قبلها وغيرها مما اشرت اليه في "تخريج فقه السيرة"(ص 64) فقد شكك في ثبوتها الشيخ (أبو زهرة) مع انه ذكر حديث مسلم هذا ثم قال (1/ 127) : " ونحن نري أن الأخبار بالنسبة للشق لا تخلوا من اضطراب وعلي فرض انها صحيحة نقول انها غير مقبولة (!) بل انا نقبلها ان صحت ولكن الإضطراب في خبرها يجعلنا غير رادين ولا مصدقين " ! اقول : بمثل هذه الفلسفة المتناقضة يرد هذا الشيخ هذه الأحاديث الصحيحة ويتلاعب بالألفاظ ليضل بها الناس عما يوسوس إليه الخناس فإن أقل الناس علماً وعقلاً يعلم أنه إن صح الاضطراب الذي ادعاه فيها لزم منه انها غير مقبلة لان الحديث المضطرب عند العلماء ليس مقبولاً وإذا كان الأمر كذلك لزم ردها فكيف يقول : إن الاضطراب يجعلنا نقف غير رادين ولا مصدقين ؟! والحقيقة أن أحاديث شق الصدر الشريف صحيحة لا يشك فيها إلا ضعفاء الإيمان او من لا إيمان عنده من الدهريين وغيرهم وأن الاضطراب المزعوم فيها لا حقيقة له إلا مجرد الدعوى لتسليك ردها علي القراء من حضرة ( الإمام ) ! (7) اى: [ توسلوا ] . الناشر .
(8) في "السيرة" : "أصل" ، ولعله الصواب ، فإنه كذلك عند الطبراني.
(9) "سيرة ابن هشام" (4/ 131) ولم يذكر الشعر وصرح عنده ابن إسحاق بالتحديث فالسند حسن وقد رواه الطبراني عن ابن إسحاق وفيه الشعر ويشهد له ما بعده وهما مخرجان في "الصحيحة" (3252).
(10) أخرجه الطبراني في "معاجمه الثلاثة" بإسناد فيه جهالة وقد حسنه الحافظ ورواه الضياء المقدسي في "المختارة" وهو قوي بما قبله ولذلك خرجته في "الصحيحة" كما ذكرت أنفاً.
_______________صحيح السيرة النبوية
ما صح من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه
بقلم
محمد ناصر الدين الألباني
(رحمه الله تعالى)
الطبعة الأولى
المكتبة الإسلامية
عمان - الأردن
أخرج البخاري ومسلم عن أم حبيبة بنت أبي سفيان [ أنها ] قالت: يا رسول الله! انكِح أختي بنت أبي سفيان ( ولمسلم: عزة بنت أبي سفيان )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أو تحبين ذلك؟ )). قلت: نعم، لست لك بمخْلِيَة(1)، وأَحبُّ من شاركني في خير أختي. فقال: (( فإن ذلك لا يحل لي )). قالت: فإنا نحدّث انك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ( وفي رواية: دُرّة بنت أبي سلمة ). قال: (( بنت أم سلمة؟! )). قلت: نعم. قال:(( إنها لو لم تكن ربيبتي في حَجْري(2) ما حلت لي، إنها لابْنَةُ أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضنّ عليّ بناتكن ولا أخواتكن )).
زاد البخاري: قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب أعتقها، فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
وروى ابن إسحاق عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك. قال:(( نعم؛ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام.واسترضعتُ في بني سعد بن بكر؛ فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بهماً لنا، إذ أتاني رجلان- عليهما ثياب بيض- بطست من ذهب مملوء ثلجاً، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زِنْه بعشرة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمئة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها ))(6).وإسناده جيد قوي(4).
وقد روى أحمد وأبو نعيم في (( الدلائل )) عن عتبة بن عبد: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال:(( كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي! اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟فقال: نعم. فأقبلاً يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فاخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد ، فغسلا به قلبي، ثم قال:ائتني بالسكينة. فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه. فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوية، فقال أحدهما : اجعله في كفة، واجعل ألفاً من أمته في كفة. فإذا أنا أنظر إلى الألف فوق؛ أشفق أن يخر عليّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني، وفرقتُ فرقأً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله. فرحلت بعيراً لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيتُ، فلم يرُعها، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام ))(5).
وثبت في (( صحيح مسلم )) عن أنس بن مالك:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج معه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلم يسعون إلى أمه – يعني: ظئره- فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس:وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره(6).
وفي (( الصحيحين )) عن أنس، وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء – كما سيأتي – قصة شرح الصدر ليلتئذٍ، وأنه غسل بماء زمزم.ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين: مرة وهو صغير؛ ومرة ليلة الإسراء ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى، ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه سبحانه وتعإلى .والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير ، ثم عادت على هوازن- بكمالهم- فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتّوا(7) إليه برضاعه فأعتقهم، تحنن عليهم، وأحسن إليهم؛ كما سيأتي مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى .
قال محمد بن إسحاق في وقعة (هوازن): عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(حنين)، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم؛ أدركه وفدهوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله! إنا أهل وعشيرة(8)، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله! إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمانبن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك؛ رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين.ثم أنشد
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كرمٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
امْنُنْ عَلَى بيضةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ممزقٍ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
أَبْقَتْ لَنَا الدَّهْرَ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إذ فوك يملاه مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ(9)
وقد رويت هذه القصة عن أبي صرد زهير بن جرول- وكان رئيس قومه – قال:لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ فبينا هو يميزالرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعراً أذكرّه حين شب ونشأ في (هوازن) حين أرضعوه:
امْنُنْ عَلَيْنِا رَسُولَ اللَّهِ فِي دَعَةٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
امْنُنْ عَلَى بيضةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ممزقٍ شملها في دهرها غير
أبقت لنا الْحَرْبُ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إذ فوك تملاه مِنْ مَحْضِهَا الدِّرَرُ
إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهَرُ
إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنْكَ تُلْبِسُهُ هَذِي الْبَرِيَّةَ إِذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاغْفِرْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظفر
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم )).فقالت الأنصار : وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم(10).
وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية، وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثراً.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟!
______________(1) إسم فاعل من الإخلاء ، أي : لست بمنفردة بك ولا خالية من ضرة.
(2) [ بالفتح : التربية والحضانة والرعاية ] . الناشر .
(3) قلت وتمامه في الأصل : " فلما مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خَيبَةٍ ، قَالَ لَهُ : مَاذَا لَقِيتَ ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ : لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ وأشار إلي النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع " .هكذا ذكره ابن كثير من تمام زيادة البخاري ولكن ليس عنده وقوله "وأشار الي النقرة .... " ، إلخ وإنما هي من رواية الإسماعيلي كما ذكره الحافظ ابن حجر. وإنما حذفت هذه الزيادة لأنها ليست علي شرطنا فإنها أولا مرسلة من قبل عروة .وثانيا : انه لو فرض ثبوت وصله الي الرائي فهو مجهول فلا حجة في خبره .ثالثا : انها رويا منام ، فلا قيمة لها ، لا سيما في مثل الكافر أبي لهب الذي انزل الله في ذمه { تبت يدا ابي لهب ... } ولذلك قال الحافظ : " وَفِي الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْكَافِر قَدْ يَنْفَعهُ الْعَمَل الصَّالِح فِي الْآخِرَة ; لَكِنَّهُ مُخَالِف لِظَاهِرِ الْقُرْآن , قَالَ اللَّه تَعَالَ { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنْثُورًا } " [الفرقان : 25]. واجيب بأن الخبر مرسل ارسله عروة ولم يذكر من حدثه به وعل تقدير ان يكون موصولاً فالذي في الخبر رويا منام فلا حجه فيه ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك اسلم بعد فلا يحتج به . ثانيا : على تقدير القبول فيحتمل ان يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً من ذلك بدليل قصة أبي طالب كما تقدم انه خفف عنه فنقول من الغمرات الي الضحضاح ". وأما ما ذكره الشيخ (أبو زهرة) (1/ 121) ان ثويبية كانت أول من أعلم أبا لهب بولادة ابن أخيه محمد فاعتقها لهذه البشري الكريمة فمما لا اصل له في الرواية وإنما علقه المؤلف تعليقاً بدون سند ! .
(4) قلت وهو كما قال وقد مضي الطرف الاول منه (ص 13) مع تخريجه وسيأتي (ص 53 ) .
(5) قلت ورجاله ثقات ، غير أن بقية بن الوليد مدلس وقد عنعنه لاكنه قد سرح بالتحديث في رواية الحاكم (2/ 616 -617) وقال "صحيح علي شرط مسلم"! ووافقه الذهبي! وإنما هو صحيح فقط فإن من رواته بَحِير بن سعد ولم يروي له مسلم وانظر "الصحيحة" (373) .
(6) مسلم (1/ 101 - 102).قلت : وهذا الحديث مع صحته وصحة شواهده التي قبلها وغيرها مما اشرت اليه في "تخريج فقه السيرة"(ص 64) فقد شكك في ثبوتها الشيخ (أبو زهرة) مع انه ذكر حديث مسلم هذا ثم قال (1/ 127) : " ونحن نري أن الأخبار بالنسبة للشق لا تخلوا من اضطراب وعلي فرض انها صحيحة نقول انها غير مقبولة (!) بل انا نقبلها ان صحت ولكن الإضطراب في خبرها يجعلنا غير رادين ولا مصدقين " ! اقول : بمثل هذه الفلسفة المتناقضة يرد هذا الشيخ هذه الأحاديث الصحيحة ويتلاعب بالألفاظ ليضل بها الناس عما يوسوس إليه الخناس فإن أقل الناس علماً وعقلاً يعلم أنه إن صح الاضطراب الذي ادعاه فيها لزم منه انها غير مقبلة لان الحديث المضطرب عند العلماء ليس مقبولاً وإذا كان الأمر كذلك لزم ردها فكيف يقول : إن الاضطراب يجعلنا نقف غير رادين ولا مصدقين ؟! والحقيقة أن أحاديث شق الصدر الشريف صحيحة لا يشك فيها إلا ضعفاء الإيمان او من لا إيمان عنده من الدهريين وغيرهم وأن الاضطراب المزعوم فيها لا حقيقة له إلا مجرد الدعوى لتسليك ردها علي القراء من حضرة ( الإمام ) ! (7) اى: [ توسلوا ] . الناشر .
(8) في "السيرة" : "أصل" ، ولعله الصواب ، فإنه كذلك عند الطبراني.
(9) "سيرة ابن هشام" (4/ 131) ولم يذكر الشعر وصرح عنده ابن إسحاق بالتحديث فالسند حسن وقد رواه الطبراني عن ابن إسحاق وفيه الشعر ويشهد له ما بعده وهما مخرجان في "الصحيحة" (3252).
(10) أخرجه الطبراني في "معاجمه الثلاثة" بإسناد فيه جهالة وقد حسنه الحافظ ورواه الضياء المقدسي في "المختارة" وهو قوي بما قبله ولذلك خرجته في "الصحيحة" كما ذكرت أنفاً.
_______________صحيح السيرة النبوية
ما صح من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه
بقلم
محمد ناصر الدين الألباني
(رحمه الله تعالى)
الطبعة الأولى
المكتبة الإسلامية
عمان - الأردن
تعليقات
إرسال تعليق