كتاب الصيام
كتاب الصيام
85- ( ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ اعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ ادنوا فكلا ).
رواه أبوبكر بن أبي شيبة في (المصنف) والفريابي في (الصيام) عنه وعن أخيه عثمان بن أبي شيبة , قالا ثنا عمر بن سعد أبو داود عن سفيان عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة , قال:
(أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وهو بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَدْنِوا فَكُلَا فَقَالَا إِنَّا صَائِمَانِ فَقَالَ ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ) , الحديث.
ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ أي : شدوا الرحل لهما على البعير.
مَرِّ الظَّهْرَانِ : بفتح الميم وتشديد الراء : موضع بقرب مكة , (النهاية).
وكذا أخرجه النسائي , وابن خزيمة , وابن حبان , وقال ابن خزيمة : (فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضي بعض النهار).
والغرض من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ ....) , الإنكار , وبيان أن الأفضل أن يفطرا , ولا يحوجا الناس إلى خدمتهما.
ويبين ذلك ماروى الفريابي (67/1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (لا تصم في السفر , فإنهم إذا أكلوا طعاماً قالوا : ارفعوا للصائم , وإذا عملوا عملاً قالوا : اكفلوا للصائم , فيذهبوا بأجرك).
قلت : ففي الحديث توجيه كريم إلى خلق قويم , وهو الاعتماد على النفس , وترك التواكل على الغير أو حملهم على خدمته , ولو لسبب مشروع كالصيام.
أفليس في الحديث إذن رد واضح على أولئك الذين يستغلون علمهم , فيحملون الناس على التسارع في خدمتهم , حتى في حمل نعالهم؟.
ولئن قال بعضهم : لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخدمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن خدمة , حتى كان فيهم من يحمل نعليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو عبد الله بن مسعود.
فجوابنا : نعم , ولكن هل احتجاجهم بهذا لأنفسهم إلا تزكية منهم لها , واعتراف بأنهم ينظرون إليها على أنهم ورثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العلم حتى يصح لهم هذا القياس؟.
وآيم الله , لو كان لديهم نص على أنهم الورثة , لم يجز لهم هذا القياس , فهؤلاء أصحابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهود لهم بالخيرية – وخاصة منهم العشرة المبشرون بالجنة – فقد كانوا خدام أنفسهم , ولم يكن واحد منهم يخدم من غيره عشر معشار ما يخدم أولئك المعنيون من تلامذتهم ومريديهم , فكيف وهم لا نص عندهم بذلك , ولذلك فإني أقول : إن هذا القياس فاسد الاعتبار من أصله , هدانا الله تعالى جميعاً سبيل التواضع والرشاد.
جواز إفطار المسافر في رمضان
191- (كَانَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَيُفْطِرُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يَدَعُهُمَا يَقُولُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا يَعْنِي الْفَرِيضَةَ).
أخرجه الطحاوي , وأحمد , والبزار , من طريق حامد عن إبراهيم عن علقمة عن أبن مسعود مرفوعا.
قلت وهذا سند جيد وهو علي شرط مسلم , والحديث صحيح قطعا بشقيه : أما قصر الصلاة , ففيه أحاديث كثيرة مشهورة عن جماعة من الصحابة فلا نصيل الكلام بذكرها ، وأما الصوم في السفر , فقد بدرت من الصنعاني في سبل السلام كلمة نفى فيها أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم صام في السفر فرضاً فقال : (ثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه لم يتم رباعية في سفر , ولا صام فيه فرضا).
ولهذا توجهت الهمة إلى ذكر بعض الأحاديث التي تدل على خطأ النفي المذكور فأقول : ورد صومه صلي الله عليه وسلم في السفر عن جماعة من الصحابة ، منهم عبدالله بن مسعود ، وعبدالله بن عباس ، وأنس بن مالك , وابوالدرداء.
1- أما حديث ابن مسعود فهو هذا.
2- وأما حديث ابن عباس فقال أبوداود الطيالسي حدثنا سليمان عن سماك عن عكرمة عن ابن مسعود مرفوعا بالشطر الأول منه وسنده حسن.
3- وأما حديث أنس فرواه عنه زياد النميري : حدثني أنس بن مالك قال : (وافق رسول الله صلي الله عليه وسلم رمضان في سفره فصامه , ووفقه رمضان في سفر فأفطره ، رواه البيهقي ، وزياد هذا هو أبن عبدالله النميري البصري ، ضعيف ، يكتب حديثه للشواهد.
4- وأما حديث أبي الدرداء فيرويه الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ) ، أخرجه مسلم.
192- (هِيَ رُخْصَةٌ [يعني : الفطر في السفر] مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ).
رواه مسلم , والنسائي , والبيهقي , من طريق أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (فذكره).
قال مجد الدين ابن تيمية في المنتقى : (وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر).
قلت : ووجه الدلالة قوله في الصائم :(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) , أي : لا إثم عليه فإنه يشعر بمرجوحية الصيام كما هو ظاهر , لا سيما مع مقابلته بقوله في الفطر (فحسن) , لكن هذا الظاهر غير مراد عندي , والله أعلم , وذلك لأن رفع الجناح في نص ما عن أمر ما لا يدل إلا على أنه يجوز فعله وأنه لا حرج على فاعله , وأما هل هذا الفعل مما يثاب فاعله أو لا , فشي آخر , لا يمكن أخذه من النص ذاته , بل من نصوص أخرى خارجة عنه , وهذا شئ معروف عند تتبع الأمور التي ورد رفع الجناح عن فاعلها , وهي علي قسمين:
أ- قسم منها يراد بها رفع الحرج فقط , مع استواء الفعل والترك , وهذا هو الغالب , ومن أمثلته قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
193- (خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَة وَالْعَقْرَبُ ُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ).
ومن الواضح أن المراد من رفع الجناح في هذا الحديث هو تجويز القتل , ولا يفهم منه أن القتل مستحب أو واجب أو تركه أولى.
ب- وقسم يراد به رفع الحرج عن الفعل , مع كونه في نفسه مشروعاً له فضلية , بل قد يكون واجباً , وإنما يأتي النص برفع الحرج في هذا القسم دفعاً لوهم أو زعم من قد يظن الحرج في فعله , ومن أمثلة هذا ما روى الزهري عن عروة قال : (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا).
إذا تبين هذا , فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث : (وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) , لا يدل إلا على رفع الإثم عن الصائم , وليس فيه ما يدل على ترجيح الإفطار على الصيام.
ولكن , إذا كان من المعلوم أن صوم رمضان في السفر عبادة , بدليل صيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه , فمن البدهي حينئذ أنه أمر مشروع حسن , وإذا كان كذلك , فإن وصف الإفطار في الحديث بأنه حسن لا يدل على أنه أحسن من الصيام , لأن الصيام أيضاً حسن كما عرفت , وحينئذ , فالحديث لا يدل على أفضلية الفطر المدعاة , بل على أنه والصيام متماثلان.
ويؤكد ذلك حديث حمزة بن عمرو من رواية عائشة رضي الله عنها : أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : يارسول الله إني رجل أسرد الصوم , فأصوم في السفر ؟ قال:
194- (صم إن شئت ، وأفطر إن شئت).
قلت : فخيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الأمرين , ولم يفضل له أحداهما على الآخر , والقصة واحدة , فدل على أن الحديث ليس فيه الأفضلية المذكورة.
ويقابل هذه الدعوى قول الشيخ علي القاري في المرقاة إن الحديث دليل على أفضلية الصوم , ثم تكلف في توجيه ذلك.
والحق أن الحديث يفيد التخيير لا التفضيل , على ما ذكرناه من التفصيل .
نعم , يمكن الاستدلال لتفضيل الإفطار على الصيام بالأحاديث التي تقول : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ [وفي رواية : كما يحب أن تؤتى عزائمه]).
وهذا لا مناص من القول به , لكن يمكن أن يقيد ذلك بمن لا يتحرج بالقضاء , وليس عليه حرج في الأداء , وإلا عادت الرخصة عليه بخلاف المقصود , فتأمل.
وأما حديث : (من أفطر [يعني في السفر] فرخصة , ومن صام فالصوم أفضل) , فهو حديث شاذ لا يصح , والصواب أنه موقوف على أنس , كما بينته في الأحاديث الضعيفة , ولو صح , لكان نصاً في محل النزاع لا يقبل الخلاف , وهيهات , فلا بد حينئذ من الاجتهاد والاستنباط , وهو يقتضي خلاف ما أطلقه هذا الحديث الموقوف , وهو التفصيل الذي ذكرته , والله الموفق.
جواز تقبيل الصائم لزوجته في رمضان
219- (كَانَ يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ وَأَنَا صَائِمَةٌ : يعني عائشة).
أخرجه أبو داود , وأحمد : من طريقين عن سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ الْقُرَشِيَّ - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مرفوعاً.
ثم أخرجه أحمد , والنسائي , والطيالسي , والشافعي , والطحاوي , و البيهقي , وأبو يعلى من طريق أخرى عن سعد بن إبراهيم به بلفظ : (أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَبِّلَنِي فَقُلْتُ إِنِّي صَائِمَةٌ فَقَالَ وَأَنَا صَائِمٌ ثُمَّ قَبَّلَنِي).
وفي هذا الحديث رد للحديث الذي رواه محمد بن الأشعث عن عائشة قالت : (كان لا يمس من وجهي شيئاً وأنا صائمة) , وإسناده ضعيف.
وحديث الباب يدل على جواز تقبيل الصائم لزوجته في رمضان , وقد اختلف العلماء في ذلك على أكثر من أربعة أقوال ’ أرجحها الجواز , على أن يراعى حال المقبل , بحيث إنه إذا كان شاباً يخشى على نفسه أن يقع في الجماع الذي يفسد عليه صومه , امتنع من ذلك , وإلى هذا أشارت السيدة عائشة رضي الله عنها في الرواية الآتية عنها (.. وأيكم يملك إربه) , بل قد روي ذلك عنها صريحاً , فقد أخرج الطحاوي عنها قالت (ربما قبلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباشرني وهو صائم , أما أنتم , فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف) , ويؤيده قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دع ما يريبك إلى مالا يريبك).
ولكن ينبغي أن يعلم أن ذكر الشيخ ليس على سبيل التحديد , بل المراد التمثيل بما هو الغالب على الشيوخ من ضعف الشهوة وإلا , فالضابط في ذلك قوة الشهوة وضعفها , أو ضعف الإرادة وقوتها.
وعلى هذا التفصيل تحمل الروايات المختلفة عن عائشة رضي الله عنها , فإن بعضها صريح عنها في الجواز مطلقاً , كحديثها هذا , لا سيما وقد خرج جواباً على سؤال عمرو بن ميمون لها في بعض الروايات , وقالت (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) , الأحزاب 21 , وبعضها يدل على الجواز حتى للشاب , لقولها : (وأنا صائمة) , فقد توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمرها 18 سنة.
ومثله ما حدثت به عائشة بنت طلحة أنها كانت عند عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل عليها زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق , وهو صائم , فقالت له عائشة : ما منعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها ؟ فقال : أقبلها وأنا صائم ؟ قالت : نعم ، أخرجه مالك وعنه الطحاوي , بسند صحيح.
قال ابن حزم : (عائشة بنت طلحة كانت أجمل نساء أهل زمانها , وكانت أيام عائشة هي وزوجها فتيين في عنفوان الحداثة).
وهذا ومثله محمول على أنها كانت تأمن عليهما , ولهذا قال الحافظ في الفتح بعد أن ذكر هذا الحديث من طريق النسائي : [فقال : وأنا صائم ؟ فقبلني] : (وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك لمن لا يتاثر بالمباشرة والتقبيل , لا للتفرقة بين الشاب والشيخ , لأن عائشة كانت شابة نعم لما كان الشاب مظنة لهيجان الشهوة , فرق من فرق.
220- (كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكِانَّ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ).
ومرادها رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان غالباً لهواه , والإرب : هو بفتح الهمزة أو كسرها , قال ابن الأثير : (وله تأويلان : أحدهما : أنه الحاجة , والثاني : أنه أرد به العضو , وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة , وهو كناية عن المجامعة).
قال في المرقاة : (وأما ذكر الذكر , فغير ملائم للأنثى , لا سيما في حضور الرجال) , وراجع تمام البحث فيه.
وفي الحديث فائدة أخرى على الحديث الذي قبله , وهي جواز المباشرة من الصائم وهي شئ زائد على القبلة , وقد اختلفوا في المراد منها هنا فقال القاري : (قيل : هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج , وقيل : هي القبلة واللمس باليد).
قلت : ولا شك أن القبلة ليست مرادة بالمباشرة هنا , لأن الواو تفيد المغايرة , فلم يبق إلا أن يكون المراد بها إما القول الأول أو اللمس باليد , والأول هو الأرجح لأمرين:
الأول : حديث عائشة الآخر قالت : (كَانَتْ إحدانا إذا كانت حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا قَالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟) .رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فإن المباشرة هنا هي المباشرة في حديث الصيام , فإن اللفظ واحد , والدلالة واحدة , والرواية واحدة أيضاً.
بل إن هناك ما يؤيد المعنى المذكور , وهو الأمر الآخر , وهو أن السيدة عائشة رضي الله عنها قد فسرت المباشرة بما يدل على هذا المعنى , وهو قولها في رواية عنها:
221- (كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَوْبًا يَعْنِي الْفَرْجَ).
وفي هذا الحديث فائدة هامة , وهو تفسير المباشرة , بأنه مس المرأة فيما دون الفرج , فهو يؤيد التفسير الذي سبق نقله عن القاري , وإن كان حكاه بصيغة التمريض [قيل] , فهذا الحديث يدل على أنه قول معتمد , وليس في أدلة الشريعة ما ينافيه , بل قد وجدنا في أقوال السلف ما يزيده قوة , فمنهم راوية الحديث عائشة نفسها رضي الله عنها , فروى الطحاوي بسند عن حكيم بن عقال أنه قال : (سألت عائشة : ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم ؟ قالت فرجها).
الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ
224- (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ).
قال الترمذي عقب الحديث : (وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ)
وقال الصنعاني في سبل السلام : (فيه دليل على أن يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس , وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره , ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية).
وذكر معنى هذا ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن وقال : (وقيل : فيه الرد على من يقول : إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل , جاز له أن يصوم ويفطر , دون من لم يعلم , وقيل : إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال , ولم يحكم القاضي بشهادته : أنه لا يكون هذا له صوماً , كما لم يكن للناس).
وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على ابن ماجه بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي : (والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل وليس لهم التفرد فيها بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة وعلى هذا فإذا رأى أحد الهلال ورد الإمام شهادته ينبغي أن لا يثبت في حقه شيء من هذه الأمور ويجب عليه أن يتبع الجماعة في ذلك).
قلت : وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث , ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق حين امتنع من صيام يوم عرفة , خشية أن يكون يوم النحر , فبينت له أنه لا عبرة برأيه , وأن عليه اتباع الجماعة , فقالت : (النحر يوم ينحر الناس , والفطر يوم يفطر الناس).
قلت : وهذا هو اللأئق بالشريعة السمحة التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم , وإبعادهم عن كل ما يفرق جمعهم من الأراء الفردية , فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد – ولو كان صواباً من وجهة نظره – في عبادة جماعية كالصوم والتعييد وصلاة الجماعة , ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي بعضهم وراء بعض وفيهم من يرى أن مس المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء , ومنهم من لا يرى ذلك , ومنهم من يتم في السفر , ومنهم من يقصر , فلم يكن اختلافهم هذا وغيره ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإمام الواحد , والاعتداد بها , وذلك لعلمهم بأن التفرق في الدين شر من الاختلاف في بعض الآراء , ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأى المخالف لرأي الإمام الأعظم في المجتمع الأكبر - كمنى – إلى حد ترك العمل برأيه إطلاقاً في ذلك المجتمع , فراراً مما قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه , فروى أبو داوود ( أن عثمان رضي الله عنه صلى بمنى أربعاً فقال عبدالله بن مسعود منكراً عليه : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين , ومع أبي بكر ركعتين , ومع عمر ركعتين , ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها , ثم تفرقت بكم الطرق , فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين , ثم إن ابن مسعود صلى أربعاً فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربعاً ؟ قال الخلاف شر ) وسنده صحيح.
وروى أحمد نحو هذا عن أبي ذر رضي الله عنهم أجمعين.
فليتأمل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور أولئك الذين لا يزالون يتفرقون في صلواتهم , ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد , وخاصة في صلاة الوتر في رمضان بحجة كونهم على خلاف مذهبهم , وبعض أولئك الذين يدعون العلم بالفلك ممن يصوم وحده ويفطر وحده متقدماً أو متأخراً على جماعة المسلمين , معتداً برأيه وعلمه , غير مبال بالخروج عنهم.
فليتأمل هؤلاء جميعاً فيما ذكرناه من العلم , لعلهم يجدون شفاء لما في نفوسهم من جهل وغرور , فيكونون صفاً واحداً مع إخوانهم المسلمين , فإن يد الله على الجماعة.
النهي عن صوم السبت مطلقاً إلا في الفرض
225- (صِيَامَ يَوْمِ السَّبْتِ لَا لَكِ وَلَا عَلَيْكِ).
أخرجه أحمد : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ وَرْدَانَ عَنْ عُبَيْدٍ الْأَعْرَجِ قَالَ حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَغَدَّى وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ فَقَالَ تَعَالَيْ فَكُلِي فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ فَقَالَ لَهَا صُمْتِ أَمْسِ فَقَالَتْ لَا قَالَ فَكُلِي فَإِنَّ صِيَامَ يَوْمِ السَّبْتِ لَا لَكِ وَلَا عَلَيْكِ.
والحديث ظاهره النهي عن صوم السبت مطلقاً إلا في الفرض , وقد ذهب إليه قوم من أهل العلم كما حكاه الطحاوي , وهو صريح في النهي عن صومه مفرداً , ولا أرى فرقاً بين صومه – ولو صادف يوم عرفة أو غيره من الأيام المفضلة – وبين صوم يوم من أيام العيد إذا صادف يوم الاثنين أو الخميس , لعموم النهي , وهذا قول الجمهور فيما يتعلق بالعيد , كما في المحلى , وبسط القول في هذه المسألة لا مجال له الآن , فإلى مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.
أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ
328 – (مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)
رواه البخاري , ومسلم , وأحمد , من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا فَتَرَخَّصَ فِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ : (فذكره).
قلت : والأمر الذي ترخص فيه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التقبيل في الصيام , خلافاً لما قد يتبادر لبعض الأذهان , والدليل الحديث الآتي:
329 – (أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ).
رواه أحمد : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَ عَطَاءً أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ فَارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ فَقَالَ (فذكره).
قلت : وهذا سند صحيح متصل.
الصوم والصدقة عن الوالد المسلم
484- (أَمَّا أَبُوكَ فَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ).
أخرجه الإمام أحمد حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : "أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَنْحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِي نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ بَدَنَةً وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : (فذكره).
والحديث دليل واضح على أن الصدقة والصوم تلحق الوالد ومثله الوالدة بعد موتهما إذا كانا مسلمين , ويصل إليهما ثوابها بدون وصية منهما , ولما كان الولد من سعي الوالدين , فهو داخل في عموم قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)النجم39 , فلا داعي إلى تخصيص هذا العموم بالحديث وما ورد في معناه في الباب , مما أورده المجد ابن تيمية في " المنتقى " كما فعل البعض.
واعلم أن الأحاديث التي ساقها في الباب هي خاصة بالأب أو الأم من الولد فالاستدلال بها على وصول ثواب القرب إلى جميع الموتى كما ترجم لها المجد ابن تيمية بقوله " باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى " غير صحيح لأن الدعوى أعم من الدليل , ولم يأت دليل يدل دلالة عامة على انتفاع عموم الموتى من عموم أعمال الخير التي تهدى إليهم من الأحياء , اللهم إلا في أمور خاصة ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار , ثم الكاتب في كتابه "أحكام الجنائز وبدعها" , وقد يسر الله – والحمد لله – طبعه , من ذلك الدعاء للموتى , فإنه ينفعهم إذا استجابه الله تبارك وتعالى , فاحفظ هذا تنج من الإفراط والتفريط في هذه المسألة.
وخلاصة ذلك أن للولد أن يتصدق ويصوم ويحج ويعتمر ويقرأ القرآن عن والديه , لأنه من سعيهما , وليس له ذلك عن غيرهما , إلا ما خصه الدليل مما سبقت الإشارة إليه , والله أعلم.
_____________________
عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردودشبكة سحاب السلفية
تعليقات
إرسال تعليق