الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية انزال القرآن الكريم الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله

 الجواب الواضح المستقيم
في التحقيق
في كيفية انزال القرآن الكريم
(أو)
((نقد قول السيوطي في الاتقان: أن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ وجاء به إلى محمد))

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على كل دين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من بريته أجمعين، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فقد سألني من تعينت اجابته عن ما وقع في ((كتاب الاتقان للسيوطي)) في بحث كيفية انزال القرآن الكريم حاكيا له في جملة أقوال من غير رد له ولا انكار من أن جبريل عليه السلام أخذه من اللوح المحفوظ وجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم: 

هل هذا من أقوال أهل السنة والجماعة، ومما ثبت عن سلف هذه الأمة وأئمتها، أو هو من أقوال أهل البدع، وما حقيقة ذلك، وأي شيء ترجع إليه هذه المقالة. 

فأقول ومن الله أستمد الصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل:
هذه ((المقالة)) اغتر بها كثير من الجهلة وراجت عليهم. 

والسيوطي رحمه الله مع طول باعه وسعة اطلاعه وكثرة مؤلفاته ليس ممن يعتمد عليه في مثل هذه الأصول العظيمة. 

وهذه ((المقالة)) مبنية على أصل فاسد، وهو القول بخلق القرآن، وهذه هي مقالة الجمهمية والمعتزلة ومن نحى نحوهم. وهذه المقالة الخاطئة حقيقتها انكار أن يكون الله متكلما حقيقة، ويلزم هذه المقالة من الكفر والالحاد والزندقة وانكار الرسالة ووصف الله تعالى بالخرس وتشبيهه بآلهة المشركين الأصنام التي لا تنطق وغير ذلك من المحاذير الكفرية ما يعرفه أهل العلم 

فان الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن جبريل عليه السلام سمع القرآن الكريم من الله تعالى، وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

والقائلون بخلق القرآن منهم من يقول: خلقه في اللوح المحفوظ، وأخذ جبريل ذلك المخلوق من اللوح المحفوظ، وجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم. 

ومنهم من يقول: خلقه في جبريل. 

ومنهم من يقول: خلقه في محمد، إلى غير ذلك من أقوالهم.


والأدلة لأهل السنة والجماعة على هذا الأصل من الكتاب والسنة والمعقول كثيرة جدا، 

قال تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) (1) 

وقال تعالى: (حم - تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) (2) 

وقال تعالى: (حم - تنزيل من الرحمن الرحيم) (3) 

وقال تعالى: (الم - تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) (4) .

وقال تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) (5) 

و (من) في هذه الآيات كلها لابتداء الغاية. وإذا ضم ذلك إلى الآيات الدالة على أن الله متكلم حقيقة كقوله تعالى:

(وكلم الله موسى تكليما) (6) (منهم من كلم الله) (7) 

(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) (8) يعني القرآن ونحو ذلك من الآيات المثبتة. 

نسبة القرآن وغيره من كلام الله إلى الله نسبة قول وكلام له تعالى اتضح بذلك ابتداء القرآن من رب العالمين قولا، ولم يبق أي لبس في أن القرآن سمعه جبريل من رب العالمين، كما سمع موسى عليه السلام الكلام من الله تعالى حقيقة.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يامرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار)) .

وأنا أسوق بعض ما وقفت عليه من كلام المحققين في هذه المسألة المشتمل على كثير من النصوص مع تقريرهم دلالتها أحسن تقرير، مما تقر به عيون الموحدين، وينقمع به الجهلة من المبتدعة والملحدين، ويكون أصلا في هذا الباب للمسترشدين مكتفيا بذلك عن سرد الأدلة. والله المستعان.
________
(1) سورة الانعام 14.
(2) سورة المؤمن 1- 3.
(3) سورة فصلت 1- 2.
(4) سورة السجدة 1- 2.
(5) سورة النحل 101.
(6) سورة النساء 163.
(7) سورة البقرة 253.
(8) سورة التوبة 8.



  1. _________________________
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته ((كتاب مذهب السلف القويم، في تحقيق مسألة كلام الله الكريم)) (1) ما نصه: ((فصل)) في بيان أن القرآن العظيم كلام الله عزيز العليم، ليس شيء منه كلاما لغيره لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما، قال الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون - وإذا بدلنآ آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون - قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين - ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (2) فأمره أن يقول (نزله روح القدس من ربك بالحق) والضمير في قوله: (نزله) عائد
_________
(1) وهذه الرسالة أعيد طبعها في مجموع فتاوي ابن تيمية جـ12 ص 117- 162.
(2) سورة النحل 98- 103.

  1. _________________________
على ((ما)) في قوله (بما ينزل) فالمراد به القرآن كما يدل عليه سياق الكلام.

وقوله: (والله أعلم بما ينزل) فيه اخبار بأنه أنزله، لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنهه منزل منه. ولفظ الانزال في القرآن قد يرد مقيدا بالانزال منه كنزول القرآن. وقد يرد مقيدا بالانزال من السماء ويردا به العلو فيتناول نزول المطر من السحاب ونزول الملائكة من عند الله وغير ذلك. وقد يرد مطلقا فلا يختص بنوع من الانزال، بل ربما يتناول الانزال من رؤوس الجبال كقوله تعالى:
(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) (1) والانزال من ظهور الحيوان كانزال الفحل الماء وغير ذلك. 

فقوله: (نزله روح القدس من ربك) بيانا لنزول جبريل به من الله عز وجل، فإن روح القدس هنا هو جبريل بدليل قوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) (2) وهو الروح الأمين كما في قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين) (3) وفي قوله (الأمين) دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص، فان الرسول الخائن قد يغير الرسالة كما قال تعالى في صفته في الآية الأخرى: (إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين) (4)
_________
(1) سورة الحديد 25.
(2) سورة البقرة 97.
(3) سورة الشعراء 192- 195.
(4) سورة التكوير 19- 21.


  1. _________________________

وفي قوله: (منزل من ربك) دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول انه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة كما هو قول ((الجهمية)) الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم، 

فان السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال ان القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة جهميا.

فان جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزيد المبالغة في النفي والابتداء لكثرة اظهار ذلك والدعوة إليه، وان كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فان الجعد أول من أحدث ذلك في الاسلام فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر، وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فاني مضح بالجعد بن درهم، انه زعم بأن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه.

ولكن المعتزلة وان وافقوا جهما في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك كمسائل الايمان والقدر وبعض مسائل الصفات ايضا ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول أن الله لا يتكلم أو يقول أنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون أنه تكلم حقيقة، لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضا كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء.

فالمقصود ان قوله: (منزل من ربك) فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات، ولهذا قال السلف: منه بدأ. أي هو الذي تلكم به لم يبتدأ من غيره كما قالت الخلقية.

ومنها أن قوله: (منزل من ربك) فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس النبي من العقل الفعال أو غيره كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة، وهذا القول أعظم كفرا وضلالا من الذي قبله.

ومنها أن هذه الآية أيضا تبطل قول من قال أن القرآن ليس منزل من الله بل مخلوق أما في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كما يقول ذلك الكلابية والأشعرية الذين يقولون: القرآن العربي ليس هو كلام الله، وانما كلامه المعنى القائم بذاته، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمدا فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون جبريل أخذه من اللوح المحفوظ أو غيره. 

فهذه الأقوال التي تقدمت هي تفريع على هذا القول، فان هذا القرآن العربي لابد له من متكلم تكلم به أولا قبل أن يصل إلينا.
وهذا القول يوافق قول المعتزلة ونحوهم في اثبات خلق القرآن العربي، وكذلك التوراة العبرية، ويفارقه من وجهين ((أحدهما)) : ان أولئك يقولون أن المخلوق كلام الله، وهؤلاء يقولون أنه ليس كلام الله لكن يسمى كلام الله مجازا، وهذا قول أئمتهم وجمهورهم وقالت طائفة من متأخريهم بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا بالاشتراط اللفظي، لكن لفظ هذا الكلام ينقض أصلهم في ابطال قيام الكلام بغير المتكلم به.

ومع هذا لا يقولون ان المخلوق كلام الله حقيقة كما يقوله المعتزلة مع قولهم انه كلامه حقيقة بل يجعلون القرآن العربي كلاما لغير الله وهو كلام حقيقة، وهذا شر من قول المعتزلة، وهذا حقيقة قول الجهمية ومن هذا الوجه فقول المعتزلة أقرب وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء وانما يتنازعونهم في اللفظ.

((الثاني)) : ان هؤلاء يقولون لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته، والخلقية يقولون لا يقوم بذاته كلام. ومن هذا الوجه الكلابية خير من الخلقية في الظاهر، ولكن جمهور الناس يقولون أن أصحاب هذا القول عند التحقيق لم يثبتوا كلاما له حقيقة غير المخلوق، فانهم يقولون أنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، ان عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وان عبر عنه بالسريانية كان انجيلا ومنهم من قال هو خمس معان، وجمهور العقلاء الكثيرون يقولون ان فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام، والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطىء واتفاق كما في الأخبار المتواترة، واما مع التواطىء فقد يتفقون على الكذب عمدا، وقد يتفقون على جحد الضرورات وان لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة ولم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله ولمحبته لنصر ذلك القول، كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم فسادها بالضرورة.

وقال جمهور العقلاء: نحن اذا عربنا التوراة والانجيل لم يكن

معنى ذلك معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا، وكذلك معنى (قل هو الله أحد) ليس هو معنى (تبت يدا أبي لهب) ولا معنى ((آية الكرسي)) معنى ((آية الدين)) . وقالوا: إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئا واحدا فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بان هذا الالزام ليس لهم عنه جواب عقلي. 

ثم منهم من قال: الناس في الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد، وإما ناف لها، وأما اثباتها واتحادها فخلاف الاجماع، وهذه طريقة القاضي أبي بكر وابي المعالى وغيرهما ومنهم من اعترف بأنه ليس له عنه جواب كأبي الحسن الآمدي وغيره.

والمقصود هنا أن هذه الآية تبين بطلان هذا القول، كما تبين بطلان غيره، فان قوله: (نزله روح القدس من ربك) يقتضي نزول القرآن من ربه والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، بدليل قوله: (فإذا قرأت القرآن) وانما يقرأ القرآن العربي لا يقرأ معانيه المجردة. 

وأيضا فضمير المفعول في قوله (نزله) عائد إلى (ما) في قوله (والله أعلم بما ينزل) فالذي انزله الله هو الذي نزل به روح القدس. فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله فلا يكون شيء منه نزله من غيره من الأعيان المخلوقة ولا نزله من نفسه. وأيضا فانه قال عقب هذه الآية: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) الآية وهم كانوا يقولون انما يعلمه هذا القرآن العربي بشر، لم يكونوا يقولون انما يعلمه بشر معانيه فقط بدليل قوله: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) فانه تعالى أبطل قول الكفار بان لسان الذي الحدوا إليه - فجعلوه هو الذي يعلم محمدا القرآن - لسان أعجمي والقرآن لسان عربي مبين فلو كان الكفار قالوا يعلمه معانيه فقط لم يكن هذا ردا لقولهم فان الانسان قد يتعلم من الأعجمي شيئا بلغة ذلك الأعجمي ويعبر عنه بعباراته. 

وقد اشتهر في التفسير أن بعض الكفار كانوا يقولون هو تعلمه من شخص كان بمكة أعجمي قيل انه كان مولى لابن الحضرمي. وإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشرا والله أبطل ذلك بان لسان ذاك أعجمي وهذا لسان عربي مبين علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين وان محمد لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه منه ولم يؤلفه هو، وهذا بيان من الله أن القرآن العربي هو اللسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله.

وكذلك قوله: (هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) الآية (1) والكتاب اسم للكلام العربي بالضرورة والاتفاق فان الكلابية أو بعضهم يفرق بين كلام الله وكتاب الله، فيقول كلام الله هو المعنى القائم بالذات وهو غير مخلوق، وكتابه هو المنظوم المؤلف العربي وهو المخلوق. والقرآن يراد به تارة هذا وتارة هذا، والله تعالى قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآنا وكتابا وكلاما فقال تعالى: (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) (2)
_________
(1) سورة الانعام 114.
(2) سورة النمل 2.

  1. _________________________
وقال (طسم - تلك آيات الكتاب المبين) (1) وقال (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) الآية (2) فبين أن الذين سمعوه هو القرآن وهو الكتاب، وقال: (بل هو قرآن مجيد) الآية (3) وقال: (إنه لقرآن كريم) الآية (4) وقال: (يتلو صحفا مطهرة) (5) وقال: (والطور - وكتاب مسطور) الآية (6) وقال: (ولو نزلنا عليك كتابا) الآية (7) لكن لفظ الكتاب قد يراد به المكتوب فيكون هو الكلام، وقد يراد به ما يكتب فيه، كقوله (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) الآية (8) .

والمقصود هنا أن قوله: وقال: (هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) يتناول نزول القرآن العربي على كل قول، وقد أخبر أن الذين آتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق اخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم، وقال انهم يعلمون ذلك، لم يقل انهم يظنونه أو يقولونه. والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل، فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء ولا من اللوح ولا من جسم آخر ولا من جبريل ولا محمد ولا غيرهما. وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه.
_________
(1) سورة الشعراء 1، 2.
(2) سورة الأحقاف 29.
(3) سورة البروج 21.
(4) سورة الواقعة 77؟
(5) سورة البينة 2.
(6) سورة الطور 1، 2.
(7) سورة الانعام 7.
(8) سورة الاسراء 13.

  1. _________________________
وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله تعالى: (. إنا أنزلناه في ليلة القدر) أنه أنزله إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث. ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى: (بل هو قرآن مجيد) الآية وقال: (إنه لقرآن كريم) الآية وقال (إنها تذكرة) الآية (1) وقال (وإنه في أم الكتاب) الآية (2) . وكونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل وغير ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة وآثار السلف، ثم إنه يامر الملائكة بكتابتها بعدما يعملونها، فيقابل بين الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنها فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف، وهو حق. فإذا كان ما يخلقه بائنا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به.
ومن قال: ان جبريل أخذ القرآن عن الكتاب لم يسمعه من الله. كان هذا باطلا من وجوه:
_________
(1) سورة عبس 11.
(2) الزخرف 4.

  1. _________________________
منها أن يقال: إن الله تعالى كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه فيه.
فإن كان محمد أخذه من جبريل وجبريل عن الكتاب كان ينمو إسرائيل أعلا من محمد بدرجة ومن قال إنه القى إلى جبريل معاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاما، وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين كما قال تعالى:
(وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) (1) وقال: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (2) وقد أوحى إلى سائر النبيين فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلا من أخذ محمد القرآن عن جبريل، لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء، ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء قال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد وادعى أن أخذه عن الله أعلا من أخذ الرسول للقرآن، ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر وإن هذا القول من جنسه.
وأيضا فالله تعالى يقول: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) الآية (3) فضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم. وهذا يدل على أمور: على أن الله يكلم عبده تكليما زائدا على الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص، فإن لفظ
_________
(1) سورة المائدة 111.
(2) سورة القصص 7.
(3) سورة النساء 163.

  1. _________________________
التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص، والتكليم العام هو المقسوم في قوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) الآية (1) والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس قسما منه، وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى: (فاستمع لما يوحى) (2) وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى، وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات فانه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى والوحي العام الذي هو لآحاد العباد. ومثل هذا قوله في الآية الأخرى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) (3) فدل على أن التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى أمر غير الايحاء.
وأيضا فقوله: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) وقوله: (حم - تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) وقوله: (حم - تنزيل من الرحمن الرحيم) وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره. وكذلك قوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك) (4) فانه يدل على أنه مبلغ ما أنزل إليه من ربه وأنه مأمور بتبليغ ذلك.
وأيضا فهم يقولون: انه معنى واحد. فان كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله، وان كان قد سمع البعض
_________
(1) سورة الشورى 51.
(2) سورة طه 13.
(3) سورة الشورى 51.
(4) سورة المائدة 67.

  1. _________________________
فقد استمع بعضه فقد تبعض وكلاهما ينقض قولهم، فانهم يقولون أنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، فان كان ما سمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله، وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره، فيلزم كلام الله، وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره، فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله وأنزل عليه شيئا من كلامه عالما بجميع اخبار الله وأوامره، وهذا معلوم الفساد بالضرورة وان كان الواحد من هؤلاء إنما سمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم.
وأيضا قوله: (وكلم الله موسى تكليما) وقوله: (ولما جاء موسى لميقاتنا) (1) وقوله: (وناديناه من جانب الطور الأيمن) (2) وقوله: (فلما أتاها نودي) الآيات (3) دليل على تكليم موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال أنه يسمع فهو مكابر. ودليل على أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا، لا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا، وقد قال تعالى (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار) إلى قوله: (رب العالمين) (4)
وأيضا فقوله: (فلما أتاها نودي يا موسى - إني أنا ربك) (5) وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف كما في قوله: (وأنه لما قام عبد الله
_________
(1) سورة الأعراف 143.
(2) سورة مريم 52.
(3) سورة القصص 30.
(4) سورة النمل 8.
(5) سورة طه 11.

  1. _________________________
يدعوه) (1) ومثل هذا قوله: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) (2) (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (3) فانه وقت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه، ومثل هذا قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (4) وقوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) (5) وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين.
فان الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: انه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته. ومن هؤلاء من قال: انه معنى واحد لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة. ومنهم من قال: بل الحروف والأصوات قديمة الاعيان وأنها مترتبة في مقارنة وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته. ومنهم من قال: بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات. وكل هؤلاء يقولون: ان التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق ادراك في المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال، لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه، بمنزلة ما يجعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته من غير احداث
_________
(1) سورة الجن 19.
(2) سورة القصص 62.
(3) سورة القصص 65.
(4) سورة البقرة 30.
(5) سورة البقرة 34.

  1. _________________________
شيء منفصل عنه، فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي، ولهذا يقولون: انه يسمع كلامه لخلقه بدل قول الناس يكلم خلقه. وهؤلاء يردون على الخليقة الذين يقولون أن القرآن مخلوق، ويقولون عن أنفسهم أنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، وليس قولهم قول السلف، لكن قولهم أقرب إلى السلف من وجه. أما كون قولهم أقرب فلأنهم يقولون أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وهذا قول السلف. وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه فليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته، وهم يقولون: الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل. والخلقية يقولون: صفة فعل، لا صفة ذات. ومذهب السلف أنه صفة فعل وصفة ذات معا. فكل منهم موافق للسلف من وجه دون وجه.
ونظير هذا اختلافهم في افعاله تعالى ومسائل القدر، فإن المعتزلة يقولون أنه يفعل لحكمة مقصودة وارادة الاحسان إلى العباد، لكن لا يثبتون لفعله حكمة تعود إليه، وأولئك يقولون لا يفعل لحكمة ولا لمقصود أصلا. فاؤلئك اثبتوا حكمة لكن لا تقوم به، وهؤلاء لا يثبتون له قصدا يتصف به ولا حكمة تعود إليه.
وكذلك في الكلام: أولئك أثبتوا كلاما هو فعله لا يقوم به، وهؤلاء يقولون ما لا يقوم به لا يعود حكمه إليه. والفريقان يمنعون أن تقوم به حكمة مرادة له، كما يمنع الفريقان أن يقوم به كلام وفعل يريده. وقول أولئك أقرب إلى قول السلف والفقهاء اذ اثبتوا الحكمة والمصلحة في افعاله وأحكامه، واثبتوا كلاما يتكلم به بقدرته ومشيئته. وقول هؤلاء أقرب إلى قول السلف اذ اثبتوا الصفات وقالوا لا يوصف بمجرد المخلوق المنفصل عنه الذي لم يقم به أصلا ولا يعود إليه حكم من شيء لم يقم به فلا يكون متكلما بكلام لم يقم به ولا قديرا بقدرة لم تقم به.
فكل من المعتزلة والأشعرية في مسائل كلام الله وأفعال الله وافقوا السلف والأئمة من وجه وخالفوهم من وجه، وليس قول أحدهم قول السلف دون الآخر، لكن الأشعرية في جنس مسائل الصفات والقدر أقرب إلى قول السلف والأئمة من المعتزلة. انتهى.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه ((الصواعق ج2 ص293)) : - فصل -: قول اتباع الرسل الذين تلقوا عنهم هذا الباب: اثبتوا لله صفة الكلام كما اثبتوا له سائر الصفات. ومحال قيام هذه الصفة بنفسها كما يقوله بعض المكابرين انه خلق الكلام لا في محل، ومحال قيام هذه الصفة بنفسها كما يقوله المكابر الآخر انه خلق في محل فكان هو المتكلم دون المحل قالوا والكلام الحقيقي هو الذي يوجد بقدرة المتكلم وارادته قائما به لا يعقل غير هذا، وأما ما كان موجودا بدون قدرته ومشيئته وانه سمع منه فانه ليس بكلام له وانما هو مخلوق خلقه الله فيه، فلو كان ما قام بالرب تعالى من الكلام غير متعلق بمشيئته بل يتكلم بغير اختياره لم يكن هذا هو الكلام المعهود، بل هذا شيء آخر غير ما يعرفه العقل ويشهد به الشرع، قالوا ولو لم يكن هناك الفاظ مسموعة حقيقة السمع لم يكن ثم صفة كلام البتة، ولو كان عاجزا عن الكلام في الأزل لم يصر قادرا عليه فيما لم يزل، فانه إذا كانت حاله قبل وبعد سواء وهو لم يستفد صفة الكلام من غيره فمن المستحيل أن تتجدد له هذه الصفة بعد أن كان فاقدا لها بالكلية، وكذلك اثبات قدم عين كل فرد من أنواع الكلام وبقائه ازلا وابدا أو اقتران حروفه بعضها ببعض بحيث لا يسبق شيء منها لغيره لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة.
وقد دلت النصوص النبوية أنه يتكلم إذا شاء بما شاء، وأنه كلامه يسمع، وأن القرآن العزيز الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات عين كلامه حقا، لا تأليف ملك ولا بشر، وأنه سبحانه الذي قال بنفسه (المص) و (حم - عسق) (كهيعص) وأن القرآن جميعه حروفه ومعانيه نفس كلامه الذي تكلم به وليس بمخلوق ولا بعضه قديما وهو المعنى وبعضه مخلوقا وهو الكلمات والحروف ولا بعضه كلامه وبعضه كلام غيره، ولا الفاظ القرآن وحروفه ترجمة ترجم بها جبريل أو محمد عليهما السلام عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم الله بها، بل القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه تكلم الله به حقيقة.
والقرآن اسم لهذا النظم العربي الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين، فللرسولين منه مجرد التبليغ والأداء، لا الوضع والانشاء، كما يقوله أهل الزيغ والاعتداء. فكتاب الله عندهم غير كلامه، كتابه مخلوق، وكلامه غير مخلوق، والقرآن ان أريد به الكتاب كان مخلوقا، وان أريد به الكلام كان غير مخلوق. وعندهم ان الذي قال السلف هو غير مخلوق هو عين القائم بالنفس، واما ما جاء به
الرسول وتلاه على الأمة فمخلوق وهو عبارة عن ذلك المعنى. وعندهم ان الله تعالى لم يكلم موسى وانما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس من غير أن سمع منه كلمة واحدة، وما يقرأه القارئون ويتلوه التالون فهو عبارة عن ذلك المعنى وفرعوا على هذا الأصل فروعا:
منها أن كلام الله لا يتكلم به غيره فانه عين القائم بنفسه ومحال قيامه بغيره فلم يتل أحد قط كلام الله ولا قرأه.
ومنها أن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كلام الله الا على سبيل المجاز.
ومنها أنه لا يقال أن الله تكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول ولا خاطب ولا يخاطب، فان هذه كلها أفعال ارادية تكون بالمشيئة وذلك المعنى صفة أزلية لا تتعلق بالمشيئة.
ومنها أنهم قالوا لا يجوز أن ينزل القرآن إلى الأرض، فالفاظ النزول لا حقيقة لشيء منها عندهم.
ومنها أن القرآن القديم لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا عشر ولا جزء له البتة.
ومنها أن معنى الأمر هو معنى النهي ومعنى الخبر والاستخبار وكل ذلك معنى واحد؟.
ومنها أنه نفس التوراة هي نفس القرآن، ونفس الانجيل الزبور، والاختلاف في التأويلات فقط.
ومنها أن هذا القرآن العربي تأليف جبريل ومحمد، ومخلوق خلقه الله تعالى في اللوح المحفوظ فنزل به جبريل من اللوح لا من الله على الحقيقة كما هو معروف من أقوالهم.

ومنها أن ذلك المعنى القديم يجوز أن تتعلق به الادراكات الخمس فيسمع ويرى ويشم ويذاق ويلمس إلى غير ذلك من الفروع الباطلة سمعا وعقلا وفطرة.
وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته، وهي صفة ذات وفعل، قال تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (1) (فإذا) تخلص الفعل للاستقبال و (أن) كذلك و (نقول) فعل دال على الحال والاستقبال و (كن) حرفان يسبق أحدهما الآخر. فالذي اقتضته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر. وكذلك قوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية) الآية (2) سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن. وكذلك قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملآئكة اسجدوا لآدم) (3) وانما قال لهم اسجدوا بعد خلق آدم وتصويره. وكذلك قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) الآيات كلها. فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت. وكذلك قوله: (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن) والذي ناداه هو الذي قال له: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) (4) وكذلك قوله: (ويوم يناديهم فيقول) وقوله: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول
_________
(1) سورة النحل 40.
(2) سورة الاسراء 16.
(3) سورة الاعراف 11.
(4) سورة طه 14.

  1. _________________________
للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) (1) وقوله: (يوم نقول لجهنم) الآية (2) ومحال أن يقول سبحانه لجهنم (هل امتلأت وتقول هل من مزيد) قبل خلقها ووجودها.
وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره، ونصوص السنة ولا سيما أحاديث الشفاعة، وحديث المعراج وغيرها كقوله ((أتدرون ماذا قال ربكم الليلة)) (3) وقوله: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) (4) وقوله: ((مامنكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب)) (5) وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي، ويكلمهم يوم القيامة، ويكلم أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ، ويكلم أهل الجنة في الجنة ويسلم عليهم في منازلهم، وأنه كل ليلة يقول: ((من يسألني فأعطيه من يستغفرني فاغفر له)) (6) ((من يقرض غير عديم ولا ظلوم)) (7) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا)) ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه وقال له ((تمن علي)) (8) .
إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي ان دفعت دفعت الرسالة باجمعها، وإن كانت مجازا كان الوحي
_________
(1) سورة سبأ 40.
(2) سورة ق 30.
(3) متفق عليه. وفي النسائي ((ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة)) .
(4) أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي وابن حبان.
(5) أخرجه البخاري من حديث عدي بن حاتم ((وليلقين الله أحدكم)) .
(6) متفق عليه.
(7) أخرجه مسلم.
(8) رواه الحاكم والترمذي.


  1. _________________________
كله مجازا، وان كانت من المتشابه كان الوحي كله من المتشابه، وان وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة على خلاف ظاهره، فان مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعداد أنواعها واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر وأوضح من كل واضح، فكم جهد ما يبلغ التأويل والتحريف والحمل على المجاز، هب ان ذلك يمكن في موضع واثنين وثلاثة وعشرة، أفيسوغ حمل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعة آلاف موضع كلها على المجاز وتأويل الجميع بما يخالف الظاهر.
ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاثة آلاف فكل آية وكل حديث إلهي وكل حديث فيه اخبار عما قال الله تعالى أو يقول وكل أثر فيه ذلك إذا استقرئت زادت على هذا العدد، ويكفي أحاديث الشفاعة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث الحساب، وأحاديث تكليم الله لملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة، وأحاديث تكليم الله موسى، وأحاديث التكلم عند النزول الآلهي، وأحاديث التكلم بالوحي، وأحاديث تكليمه للشهداء، وأحاديث تكليمه كافة عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة، وأحاديث تكليمه للشفعاء يوم القيامة حين يأذن لهم في الشفاعة. إلى غير ذلك، إذ كل هذا وأمثاله وأضعافه مجازا لا حقيقة له. سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهدك ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد، وان البحر أو أمده من بعده سبعة أبحر وكانت اشجار الأرض أقلاما يكتب بها ما تكلم به لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلماتك، وانك لك الخلق والأمر فأنت الخالق حقيقة. انتهى.

وقال أيضا في كتابه ((الكافية الشافية، لانتصار الفرقة الناجية)) في مقدمة الكتاب: ((فصل)) وأما القرآن فاني أقول: انه كلام الله، منزل، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وتكلم الله به صدقا، وسمعه جبريل منه حقا، وبلغه محمدا صلى الله عليه وسلم وحيا. انتهى.

وقال أيضا في ((الكافية الشافية)) :
والله ربي لم يزل متكلما ... وكلامه المسموع بالآذان
صدقا وعدلا أحكمت آياته ... طلبا واخبارا بلا نقصان
ورسوله قد عاد بالكلمات من ... لدغ ومن عين ومن شيطان
أفعاذ بالمخلوق حاشاه من الاشراك ... شراك وهو معلم الايمان
بل عاذ بالكلمات وهي صفاته ... سبحانه ليست من الأكوان
وكذلك القرآن عين كلامه المسموع ... مسموع منه حقيقة ببيان
هو قول ربي كله لا بعضه ... لفظا ومعنى ما هما خلقان
تنزيل رب العالمين وقوله ... اللفظ والمعنى بلا روغان
لكن أصواب العباد وفعلهم ... كمدادهم والرق مخلوقان
فالصوت للقاري ولكن الكلام ... كلام رب العرش ذي الاحسان
هذا إذا ما كان ثم وساطة ... كقراءة المخلوق للقرآن
فاذا انتفت تلك الوساطة مثل ما قد ... قد كلم المولود من عمران
فهناكل المخلوق نفس السمع لا شيء ... من المسموع فافهم ذان
هذى مقالة أحمد ومحمد ... وخصومهم من بعد طائفتان
احداهما زعمت بأن كلامه ... خلق له الفاظه ومعان
والآخرون أبوا وقالوا شطره ... خلق وشطر قام بالرحمان
زعموا القرآن عبارة وحكاية ... قلنا كما زعموه قرآنان

هذا الذي نتلوه خلقا مثل ما قال ... الوليد وبعده الفئتان
والاخر المعنى القديم فقائم ... بالنفس لم يسمع من الديان
والامر عين النهي واستفهامه ... هو عين إخبار وذو وحدان
وهو الزبور وعين توراة وانجيل ... وعين الذكر والفرقان
الكل معنى واحد في نفسه ... لا يقبل التبعيض في الاذهان
ما ان له كل ولا بعض ولا ... حرف ولا عربي ولا عبران
ودليلهم في ذات بيت قاله ... فيما يقال الاخطل النصران
يا قوم قد غلط النصارى قبل في ... معنى الكلام وما اهتدوا لبيان
ولأجل ذا جعلوا المسيح الههم ... إذ قيل كلمة خالق رحمان
ولأجل ذا جعلوه ناسوتاولا ... هوتا قديما بعد متحدان
ونظير هذا من يقول كلامه ... معنى قديم غير ذي حدثان
والشطر مخلوق وتلك حروف ... ناسوتية لكن هما غيران
فانظر إلى ذا الاتفاق فانه ... عجب وطالع سنة الرحمن
وتكايست أخرى وقالت ان ذا ... قول محال وهو خمس معان
تلك التي ذكرت ومعنى جامع ... لجميعها كالأس للبنيان
فيكون أنواعا وعند نظيرهم ... أوصافه وهما متفقان
أن الذي جاء الرسول به لمخلوق ... ولم يسمع من الديان
والخلف بينهم فقيل محمد ... أنشاه تعبير عن القرآن
والآخرون أبوا وقالوا انما ... جبريل انشاه عن المنان
وتكايست أخرى وقالت انه ... نقل من اللوح الرفيع الشان
فاللوح مبدؤه ورب اللوح قد ... أنشاه خلقا فيه ذا حدثان
هذى مقالات لهم فانظر ترى ... في كتبهم يامن له عينان
لكن أهل الحق قالوا انما ... جبريل بلغه عن الرحمان

ألقاه مسموعا له من ربه ... للصادق المصدوق بالبرهان
انتهى

وقال شارح الطحاوية رحمه الله عند قول الطحاوية رحمه الله في عقيدته المشهورة (1) -: وأنزله على رسوله وحيا. أي أنزله إليه على لسان الملك، فسمعه الملك جبريل من الله، وسمعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الملك، وقرأه على الناس قال تعالى:
(وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (2) انتهى.

وكلام أهل العلم من المحققين لا سيما هذين الامامين العظيمين شيخ الاسلام تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في هذه المسألة كثير جدا لو استقصيناه لاستدعى مجلدا. وفيما نقلناه كفاية لمن نور الله بصيرته. والله أسأله أن يهدينا واخواننا المسلمين صراطه المستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أملاه الفقير إلى مولاه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ.
(طبع بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة في 1369)
_________
(1) ((العقيدة الطحاوية)) لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المتوفي 321هـ.
(2) سورة الاسراء 106.

(1/ 214: 239)

  1. _________________________
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله 
المجلد الأول 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة