حُجِيَّةُ السُنَّةِ .. حَدِيثُ عَرْضِ السُنَّةِ عَلَى القُرْآنِ مَكْذُوبٌ .. عِنَايَةُ الصَّحَابَةِ بِالأَحَادِيثِ وَالسُّنَنِ .. النَّهْيُ عَنْ كِتَابَةِ الأَحَادِيثِ فِي العَصْرِ النَّبَوِيِّ .. كِتَابَةُ الأَحَادِيث بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. تَدْوِينُ الأَحَادِيثِ تَدْوِينًا عَامًّا ..

حُجِيَّةُ السُنَّةِ :
وقد اتفق العلماء الذين يعتد بهم على حُجية السُنَّة، سواء منها ما كان على سبيل البيان أو على سبيل الاستقلال، قال الإمام الشوكاني: «إِنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلاَلَهَا بِتَشْرِيعِ الأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلاَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ لاَ حَظَّ لَهُ فِي الإِسْلاَمِ» (2).
_________
(2) " إرشاد الفحول " للشوكاني: ص 29.
_________________________________
وصدق «الشوكاني» فإنه لم يخالف في الاحتجاج بالسُنَّة إِلاَّ الخوارج والروافض، فقد تمسَّكوا بظاهر القرآن وأهملوا السُنن، فضلُّوا وأضلُّوا، وحادوا عن الصراط المستقيم.
وقد استفاض القرآن والسُنَّة الصحيحة الثابتة بحُجية كل ما ثبت عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (2).
. قال ميمون بن مهران: «الرَدُّ إِلَى اللهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَدُّ إِلَى الرَّسُولِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ».
وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وما قضى به النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشمل ما كان بقرآن أو بِسُنَّةٍ، وقد دلَّت الآية على أنه لا يكفي في قبول ما جاء به القرآن وَالسُنَّةِ الإذعان الظاهري بل لا بُدَّ من الاطمئنان والرضا القلبي.
وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) فقد جعل - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - طاعة الرسول من طاعته، وحذَّر من مخالفته فقال - عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) فلولا أنَّ أمره حُجَّةٌ ولازم لما تَوَعَّدَ على مخالفته بالنار.
وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (6).
_________
(1) [آل عمران، الآية: 31].
(2) [سورة النساء، الآية: 59].
(3) [سورة النساء، الآية: 65].
(4) [سورة النساء، الآية: 80].
(5) [سورة النور، الآية: 63].
(6) [سورة الأحزاب، الآية: 21].
_________________________________
وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) فقد جعل سبحانه أمر رسوله واجب الاتباع له، ونهيه واجب الانتهاء عنه.
وأما الأحاديث فكثيرة منها: ما رواه أبو داود في " سننه " عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلاَ إِنَّنِي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْقِبَهُمْ (2) بِمِثْلِ قِرَاهُ». قال الإمام الخطابي: قوله: «أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّ معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلوِّ مثل ما أعطي من الظاهر المتلوِّ
والثاني: أنه أوتي الكتاب وحياً يُتلى، وأوتي من البيان مثله أي أذن له أن يُبَيِّنَ ما في الكتاب فيعم ويخص، ويزيد عليه ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن».
وقوله: «يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ ... » يحذِّر بهذا القول من مخالفة السُنن التي سنَّها مِمَّا ليس له من القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تمثَّلوا بظاهر القرآن وتركوا السُنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيَّروا وضلُّوا، وأراد بقوله: «مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ» أنه من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه (3).
وقد دلَّ الحديث على معجزة لِلْنَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فقد ظهرت فئة في القديم والحديث إلى هذه الدعوة الخبيثة وهي الاكتفاء بالقرآن عن الأحاديث، وغرضهم هدم نصف الدين أو إنْ شئت فقل: تقويض الدين كله، لأنه إذا أهملت الأحاديث والسُنن فسيؤدِّي ذلك - ولا ريب - إلى استعجام كثير من القرآن على الأمَّةِ وعدم
_________
(1) [سورة الحشر، الآية: 7].
(2) روي مشدَّداً ومخفَّفاً من المعاقبة أي يأخذ من أموالهم بقدر قراه.
(3) " تفسير القرطبي ": ج 1 ص 38.
_________________________________
معرفة المراد منه، وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن فَقُلْ: على الإسلام العفاء.
وفي حديث العرباض بن سارِيَّةَ مرفوعاً: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروى الحاكم عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أنَّ النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في حَجَّةِ الوَدَاعِ فقال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي تَرَكْتُ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». وروى مثله الإمام مالك في " الموطأ ".
وهي صريحة في أنَّ السُنَّة كالكتاب يجب الرجوع إليها في استنباط الأحكام وقد أجمع الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - على الاحتجاج بالسُنن والأحاديث والعمل بها ولو لم يكن لها أصل على الخصوص في القرآن ولم نعلم أحداً خالف ذلك قط فكان الواحد منهم إذا عرض له أمر طلب حكمه في كتاب الله، فإن لم يجده طلبه في السُنَّة، فإن لم يجده اجتهد في حدود القرآن والسُنَّة وأصول الشريعة.
وقد وضع لهم النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذا الأساس القويم بإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقد قال له: «بِمَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو». فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
وقد فهم الصحابة رجوع جميع ما جاءت به السُنَّة إلى القرآن من قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
روى البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن مسعود قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوسْتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»، فقالت أم يعقوب: «مَا هَذَا؟» فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «[وَمَا لِي] لا َأَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قَالَتْ: «وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُهُ»، قَالَ: «وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، [أَمَا قَرَأْتِ]: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2)».
_________
(1) و (2) [سورة الحشر، الآية: 7].
_________________________________
وهذه الآية تعتبر أصلاً لكل ما جاءت به السُنَّة مِمَّا لم يرد له في القرآن ذكر وعلى هذا الدرب والطريق الواضح من جاء بعد الصحابة من أئمة العلم والدين، روي عن الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَقَالَ: «لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَجَبْتُكُمْ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: «مَا تَقُولُ فِي المُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ الزُّنْبُورَ؟» فَقَالَ: «لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: «أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللهِ؟» فَقَاَل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
ثم ذكر إسنادًا إلى سيدنا عمر أنه قال: «لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ».
وذكر ابن عبد البر في كتاب العلم (2) له عن عبد الرحمن بن يزيد: أنه رأى مُحرما عليه ثيابه، فقال: «ائْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ [بِهَا] ثِيَابِي، قال: فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3).
حَدِيثُ عَرْضِ السُنَّةِ عَلَى القُرْآنِ مَكْذُوبٌ:
أما الحديث الذي يرويه القائلون بعدم استقلال السُنَّةِ بالتشريع، وهو: «إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه» فقد بَيَّنَ أئمة الحديث وصيارفته أنه موضوع مُختلق على النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعته الزنادقة كي يصلوا إلى غرضهم الدنيء من إهمال الأحاديث , وقد عارض هذا الحديث بعض الأئمة فقالوا: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فوجدناه مخالفاً له، لأنَّا وجدنا في كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) ووجدنا فيه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (5) ووجدنا فيه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6)، (7).
وهكذا نرى أنَّ القرآن الكريم يُكَذِّبُ هذا الحديث ويرُدُّهُ.
وقد حاول بعض المُسْتَشْرِقِينَ وأتباعهم الذين صنعهم الاستعمار على يديه أنْ يُحْيُوا ما اندرس من هذه الدعوة الخبيثة، ولكن الله سبحانه قَيَّضَ لهؤلاء في الحديث - كما قَيَّضَ لأسلافهم في القديم - من وضع الحق في نصابه، وردَّ كيدهم في نُحُورهم: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (8).
_________
(1) [سورة الحشر، الآية: 7].
(2) [أي " جامع بيان العلم وفضله "].
(3) و (4) [سورة الحشر، الآية: 7].
(5) [آل عمران، الآية: 31].
(6) [سورة النساء، الآية: 80].
(7) " إرشاد الفحول ": ص 29.
(8) [سورة التوبة، الآية: 32].
_________________________________
عِنَايَةُ الصَّحَابَةِ بِالأَحَادِيثِ وَالسُّنَنِ :
ولمكانة السُنَّة من الدين، ومنزلتها من القرآن الكريم عُني الصحابة بالأحاديث النبوية عناية فائقة، وحرصوا عليها حرصهم على القرآن، فحفظوها بلفظها أو بمعناها وفهموها، وعرفوا مغازيها ومراميها بسليقتهم وفطرتهم العربية، وبما كانوا يسمعونه من أقوال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما كانوا يشاهدون من أفعاله وأحواله، وما كانوا يعلمونه من الظروف والملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث، وما كان يشكل عليهم منها ولا يدركون المراد منه يسألون عنه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد بلغ من حرصهم على سماع الوحي والسُنن من رسول الله أنهم كانوا يتناوبون في هذا السماع، روى البخاري في " صحيحه " عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ (1) - وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ - وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ... » (2) الحديث.
وبذلك جمعوا بين خيري الدين والدنيا، فما شغلهم دينهم عن دنياهم ولا شغلتهم دنياهم عن دينهم.
وإذا علمنا أنَّ القرآن والسُنَّة استفاضا ببيان فضل العلم والعلماء، وأنَّ الصحابة كانوا يعلمون أنَّ السُنَّة هي الأصل الثاني للدين، وأنهم كانوا يُحِبُّونَ رسول الله أكثر من حُبِّهِمْ لأنفسهم، وأنهم كانوا يجدون في الاستماع إليه لَذَّةً وروحاً. وأنهم كانوا يعتقدون أنه ما ينطق عن الهوى إنْ هو إِلاَّ وحي يوحى، وأنهم كانوا يجدون فيما يسمعونه منه غذاء الإيمان وزاد التقوى (3)، وأنه سبيل إلى الجنة (4).
إذا علمنا كل هذا أدركنا مبلغ حرص الصحابة على استماع السُنن والأحاديث
_________
(1) أي ناحية بني أمية، سميت البقعة باسم من نزلها.
(2) " صحيح البخاري " - كتاب العلم - باب التناوب في العلم.
(3) كان الواحد منهم يقول لصاحبه وهو ذاهب إلى مجلس الرسول: «تَعَالَ نُؤْمِنْ سَاعَةً».
(4) في الحديث الذي رواه مسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
_________________________________
وأنَّ ذلك أمر يكاد يكون من المُسَلَّمَات البدهيات.
وكذلك عنوا بتبليغ السُنن لأنهم يعلمون أنها دين واجبة البلاغ للناس كافة، وكثيراً ما كان النَّبِي - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - يحضهم على الأداء لغيرهم بمثل قوله: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».
وفي رواية بلفظ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».
رواه الشافعي والبيهقي في " المدخل ".
وفي خطبته المشهورة في حَجَّةِ الوَدَاعِ قال: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى مِنْهُ» رواه البخاري في " صحيحه ".
وكان إذا قدم عليه وفد وعلَّمهم من القرآن والسُنَّة أوصاهم أنْ يحفظوه ويبلِّغوه، ففي " صحيح البخاري " أنه قال لوفد عبد القيس: «احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ» وفي قصة أخرى قال: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ» (1).
وكثيراً ما كان يقرع أسماعهم بقوله: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فمن ثم كانوا جد حريصين على حفظ السُنن والحفاظ عليها وتبليغها بلفظها أو بمعناها.
النَّهْيُ عَنْ كِتَابَةِ الأَحَادِيثِ فِي العَصْرِ النَّبَوِيِّ:
ولم تكن الأحاديث مُدَوَّنَةً في عصر النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لأمرين:
1 - أحدهما: الاعتماد على قوة حفظهم وسيلان أذهانهم وعدم توفُّر أدوات الكتابة فيهم.
2 - ثانيهما: لما ورد من النهي عن كتابة الأحاديث والإذن في كتابة القرآن الكريم.
روى مسلم في " صحيحه " عن أبي سعيد الخُدْرِي أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلاَّ الْقُرْآنَ، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا فَلْيَمْحُهُ» ولهذا كره بعض السلف
_________
(1) " فتح الباري ": ج 1 ص 128، 149.
_________________________________
كتابة الحديث والعلم.

والظاهر أنَّ نهي النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابة الأحاديث كان خشية أنْ يلتبس على البعض بالقرآن الكريم، أو أنْ يكون شاغلاً لهم عنه ولا سيما أنَّ القوم كانوا أُمِيِّينَ، أو أنَّ النهي كان بالنسبة لمن يوثق بحفظه، أما مَنْ أمن عليه اللبس بأنْ كان قارئاً كاتباً، أو خيف عليه النسيان وعدم الضبط لما سمع فلا حرج عليه في الكتابة، وعلى هذا يحمل ما ورد من الروايات الثابتة الدالة على الإذن في الكتابة لبعض الصحابة.
روى أبو داود والحاكم وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ قَالَ: «قلت يا رسول الله: إني أسمع منك الشيء فأكتبه»، قال: «نعم»، قلت: «في الغضب والرضا؟» قال: «نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلاَّ حَقًّا» وروى البخاري عن أبي هريرة قال: «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنِّي حَدِيثًا إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ , فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ , وَكُنْتُ لاَ أَكْتُبُ». ومثل عبد الله مِمَّنْ يُؤْمَنُ عليه الالتباس، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: «كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه فشكا ذلك إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ. وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى اِلْخَطِّ» وروى البخاري ومسلم في " صحيحيهما ": «أنَّ أبا شاه اليَمَنِي التمس من النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يكتب له شيئاً سمعه من خطبته عام الفتح فقال: «اكْتُبُوا لأبِي شَاهٍ». وروى البخاري في " صحيحه ": «أنَّ علياً - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: «لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»، قُلْتُ: «وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟» قَالَ: «العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». وثبت أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره.
ومن العلماء من يرى أن أحاديث الإذن ناسخة لأحاديث النهي، إذ النهي كان في مبدأ الأمر حين خيف اشتغالهم عن القرآن بالأحاديث أو خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن، ثم لما أَمِنَ ذلك نسخ النهي ولعلَّ مِمَّا يُؤَيِّدُ القول بالنسخ أنَّ بعض أحاديث الإذن متأخِّرة التاريخ، فأبو هريرة راوي حديث الكتابة أسلم عام سبع، وقصة أبي شاه كانت في السَنَةِ الثامنة عام الفتح.
ومهما يكن من شيء فقد انقضى العهد النبوي والذين كتبوا الحديث من الصحابة عدد غير كثير.
كِتَابَةُ الأَحَادِيث بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وما أنْ توفي الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاور الرفيق الأعلى حتى كثر عدد من كان يكتب الحديث من الصحابة، وكذلك كتب التابعون وأكثروا، روي عن سعيد بن جُبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة الرحل فإذا نزل نسخه، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: «كُنَّا نَكْتُبُ الحَلاَلَ وَالحَرَامَ، وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ» وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، [عَنْ أَبِيهِ] أَنَّهُ [أُحْرِقَتْ] كُتُبُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ: «وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ عِنْدِي كُتُبِي بِأَهْلِي وَمَالِي»
وَقَدْ هَمَّ الفَارُوقُ عٌمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنْ يَجْمَعَ الأَحَادِيثَ وَيُقَيِّدَهَا بِالكِتَابَةِ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِكِتَابَتِهَا، وَطَفِقَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ مُدَّةً وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يُرِدْ لَهُ، روى البيهقي في " المدخل " عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَنَ فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارُوا عَلَيْهِ [أَنْ يَكْتُبَهَا] فَطَفِقَ عُمَرُ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ أَصْبَحَ [يَوْمًا] وَقَدْ عَزَمَ اللَّهُ لَهُ قَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَلْبَسُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا».
تَدْوِينُ الأَحَادِيثِ تَدْوِينًا عَامًّا :
واستمر الأمر على ذلك، البعض يكتب والبعض لا يكتب إلى أنْ كان عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فرأى جَمْعَ السُنن وتدوينها خشية أنْ يضيع منها شيء أو يلتبس الحق بالباطل، وكان ذلك على رأس المائة الأولى فكتب إلى بعض المبرزين من العلماء في الأمصار الإسلامية وأمرهم بجمع الأحاديث، وكتب إلى عُمَّاله في الأمصار يأمرهم بذلك، روى مالك في " الموطأ " - رواية محمد بن الحسن - أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: «أَنْ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سُنَنِهِ أَوْ حَدِيثِ عُمَرَ أَوْ نَحْوِ هَذَا فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ، وَذَهَابِ العُلَمَاءِ» وأوصاه أنْ يكتب ما عند عَمْرَةَ بنت
عبد الرحمن الأنصارِيَّةَ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر.
وعَلَّقَهُ (1) البخاري في " صحيحه " فقال: «وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ (2): [انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ]، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ».
وأخرج أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: «انْظُرُوا إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْمَعُوهُ».
ومِمَّنْ كتب إليه الخليفة العادل الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْرِي المدني أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام المتوفى سنة 124 هـ
_________
(1) التعليق هو أن يُحذف من مبتدأ الإسناد راوٍ أو أكثر وقد أكثر من التعليقات البخاري في " صحيحه " وذلك في التراجم والشواهد لا في أصول الكتاب فإنا كلها متصلة مسندة.
(2) نسب إلى جد أبيه ولجده عمرو صحبة ولأبيه محمد رؤية وهو فقيه تابعي استعمله عمر بن عبد العزيز على إمارة المدينة وولاَّهُ قضاءها ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر، وقيل كُنيته أبو عبد الملك واسمه أبو بكر توفي سنة 120 هـ.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة