باب / وجوب الصوم والفطر مع الجماعة .. باب / متى يجوز صوم الفرض بنية النهار ؟

كتاب الصيام والقيام والإعتكاف 


 باب / وجوب الصوم والفطر مع الجماعة


عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحون ". صحيح . " الصحيحة " برقم ( 224 ) .



* فقه الحديث :

قال الترمذي عقب الحديث : " وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث ، فقال : إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس " .


وقال الصنعاني في " سبل السلام " ( 2 / 72 ) :
" فيه دليل على أن يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس ، وأن المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ، ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية " .


وذكر معنى هذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ في " تهذيب السنن " ( 3 / 214 ) ،
وقال : " وقيل : فيه الرد على من يقول : إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل ؛ جاز له أن يصوم ويفطر ؛ دون من لم يعلم ، وقيل : إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ، ولم يحكم القاضي بشهادته ، أنه لا يكون هذا له صوماً ، كما لم يكن للناس " .


وقال أبو الحسن السندي في " حاشيته على ابن ماجه " بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي " :
" والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل ، وليس لهم التفرد فيها ، بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة ، ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة ، وعلى هذا ؛ فإذا رأى أحد الهلال ، ورد الإمام شهادته ؛ ينبغي أن لا يثبت في حقه شيء من هذه الأمور ، ويجب عليه أن يتبع الجماعة في ذلك " .


قلت : وهذا المعنى المتبادر من الحديث ، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق حين امتنع من صيام عرفة ؛ خشية أن يكون يوم النحر ، فبينت له أنه لا عبرة برأيه ، وأن عليه اتباع الجماعة، فقالت: "النحر يوم ينحر الناس ، والفطر يوم يفطر الناس" .


قلت: وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم ، وإبعادهم عن كل ما يفرق جمعهم من الآراء الفردية ، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد ـ ولو كان صواباً من وجهة نظره ـ في عبادة جماعية كالصوم والتعييد وصلاة الجماعة ، ألا ترى أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان يصلي بعضهم وراء بعض وفيهم من يرى أن مس المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء ، ومنهم من لا يرى ذلك ، ومنهم من يتم في السفر، ومنهم من يقصر؟ !
فلم يكن اختلافهم هذا وغيره ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإمام الواحد ، والاعتداد بها ، وذلك لعلمهم بأن التفرق في الدين شر من الاختلاف في بعض الآراء ، ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإمام الأعظم في المجتمع الأكبر كـ ( منى ) ، إلى حد ترك العمل برأيه إطلاقاً في ذلك المجتمع ، فراراً مما قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه ، فروى أبو داود ( 1 / 307 ) أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ صلى بمنى أربعاً ، فقال عبد الله بن مسعود منكراً عليه : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها ، ثم تفرقت بكم الطرق ، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين .


ثم إن ابن مسعود صلى أربعاً ! فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعاً ؟ ! قال : الخلاف شر . وسنده صحيح .وروى أحمد ( 5 / 155 ) نحو هذا عن أبي ذر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ .


فليتأمل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور أولئك الذين لا يزالون يتفرقون في صلواتهم ، ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد ، وخاصة في صلاة الوتر في رمضان ، بحجة كونهم على خلاف مذهبهم ! وبعض أولئك الذين يدعون العلم بالفلك ممن يصوم وحده ويفطر وحده ؛ متقدماً أو متأخراً على جماعة المسلمين ، معتداً برأيه وعلمه ، غير مبال بالخروج عنهم .


فليتأمل هؤلاء جميعاً فيما ذكرناه من العلم ، لعلهم يجدون شفاء لما في نفوسهم من جهل وغرور ، فيكونون صفاً واحداً مع إخوانهم المسلمين ؛ فإن يد الله مع الجماعة ) اهـ .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 باب / متى يجوز صوم الفرض بنية النهار ؟ 


عن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : مِـن أسْـلمَ : " أذن في قومك أو في الناس يوم عاشوراء : من ( كان ) أكل فليصم بقية يومه ( إلى الليل ) ، ومن لم يكن أكل فليصم " . صحيح . " الصحيحة " برقم ( 2624 ) .


* من فقه الحديث :

في هذا الحديث فائدتان هامتان :
الأولى : أن صوم يوم عاشوراء كان في أول الأمر فرضاً ، وذلك ظاهر في الاهتمام به الوارد فيه ، والمتمثل في إعلان الأمر بصيامه ، والإمساك عن الطعام لمن كان أكل فيه ، وأمره بصيام بقية يومه ، فإن صوم التطوع لا يتصور فيه إمساك بعد الفطر كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في " تهذيب السنن " ( 3 / 327 ) .


وهناك أحاديث أخرى تؤكد أنه كان فرضاً ، وأنه لما فرض صيام شهر كان هوالفريضة كما في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما ، وهو مخرج في " صحيح أبي داود " برقم ( 2110 ) .


والأخرى : أن من وجب عليه الصوم نهاراً ، كالمجنون يفيق ، والصبي يحتلم ، والكافر يسلم ، وكمن بلغه الخبر بأن هلال رمضان رؤي البارحة ، فهؤلاء يجزيهم النية من النهار حين الوجوب ، ولو بعد أن أكلوا أو شربوا ، فتكون هذه الحالة مستثناة من عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " من لم يُـجْـمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " ، وهو حديث صحيح كما حققته في " صحيح أبو داود " ( 2118 ) .


وإلى هذا الذي أفاده حديث الترجمة ذهب ابن حزم وابن تيمية والشوكاني وغيرهم من المحققين .


فإن قيل : الحديث ورد في صوم عاشوراء والدعوى أعم . قلت : نعم ، وذلك بجامع الاشتراك في الفريضة ، ألست ترى أن الحنفية استدلوا به على جواز صوم رمضان بنية من نهار ، مع إمكان النية في الليل طبقاً لحديث أبي داود ، فالاستدلال به لما قلنا أولى كما لا يخفى على أولي النهى . ولذلك قال المحقق أبو الحسن السندي في حاشيته على " ابن ماجه " ( 1 / 528 ـ 529 ) ما مختصره : ( الأحاديث دالة على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضاً ، من جملتها هذا الحديث فإن هذا الاهتمام يقتضي الافتراض . نعم ، الافتراض منسوخ بالاتفاق وشهادة الأحاديث على النسخ .


واستدل به على جواز صوم الفرض بنية من النهار ، لا يقال صوم عاشوراء منسوخ فلا يصح الاستدلال به . لأنّـا نقول : دل الحديث على شيئين : أحدهما : وجوب صوم عاشوراء ، والثاني : أن الصوم واجب في يوم بنية من نهار ، والمنسوخ هو الأول ، ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني ، ولا دليل على نسخه أيضاً .


بقي فيه بحث : وهو أن الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوماً من الليل ، وإنما عُـلِـمَ من النهار ، وحينئذ صار اعتبار النية من النهار في حقهم ضرورياً ، كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك ، فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة ) اهـ .


قلت : وهذا هو الحق الذي به تجتمع النصوص ، وهو خلاصة ما قال ابن حزم رحمه الله في " المحلى " ( 6 / 166 ) وقال عقبه : ( وبه قال جماعة من السلف كما روينا من طريق . . عبد الكريم الجزري أن قوماً شهدوا على الهلال بعد ما أصبح الناس ، فقال عمر بن عبد العزيز : من أكل فليمسك عن الطعام ، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه ) .


قلت : وأخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/69) وسنده صحيح على شرط الشيخين .


وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال في " الاختيارات العلمية " ( 4 / 63 ـ الكردي ) : ( ويصح صوم الفرض بنية النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل ، كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار ، فإنه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء وإن كان أكل ) .


وتبعه على ذلك المحقق ابن القيم ، والشوكاني ، فمن شاء زيادة بيان وتفصيل فليراجع " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (25/109 و117ـ118) ، و " زاد المعاد " لابن القيم (1/235) ، و " تهذيب السنن " له (3/328) ، و" نيل الأوطار " للشوكاني (4/167) .


وإذا تبين ما ذكرنا ، فإنه تزول مشكلة كبرى من مشاكل المسلمين اليوم ، ألا وهي اختلافهم في إثبات هلال رمضان بسبب اختلاف المطالع ؛ فإن من المعلوم أن الهلال حين يُـرى في مكان فليس من الممكن أن يُـرى في كل مكان ، كما إذا رؤي في المغرب فإنه لا يمكن أن يرى في المشرق ، وإذا كان الراجح عند العلماء أن حديث " صوموا لرؤيته . . "


إنما هو على عمومه ، وأنه لا يصح تقييده باختلاف المطالع ، لأن هذه المطالع غير محددة ولا معينة ، لا شرعاً ولا قدراً ، فالتقييد بمثله لا يصح ، وبناء على ذلك فمن الممكن اليوم تبليغ الرؤية إلى كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة ونحوها ، وحينئذ فـَـعَـلَى كل من بلغته الرؤية أن يصوم ، ولو بلغته قبل غروب الشمس بقليل ، ولا قضاء عليه ، لأنه قد قام بالواجب في حدود استطاعته ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والأمر بالقضاء لم يثبت كما سبقت الإشارة إليه ، ونرى أن من الواجب على الحكومات الإسلامية أن يوحدوا يوم صيامهم ويوم فطرهم ، كما يوحدون يوم حجهم ، ولريثما يتفقون على ذلك ، فلا نرى لشعوبهم أن يتفرقوا بينهم ، فبعضهم يصوم مع دولته ، وبعضهم مع الدولة الأخرى ، وذلك من باب درء المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما هو مقرر في علم الأصول . والله تعالى ولي التوفيق ) اهـ .

_________________
📚 كتاب " نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد " لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع ( 1 / 505 ـ 548 ) طبعة مكتبة المعارف بالرياض






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة