الرسالة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية

الرسالة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية 

مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي 

[مقدمة المؤلف] 

قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي لطف الله تعالى به آمين

الحمد لله رافع مقام العلماء العاملين وقامع أهل الزيغ المائلين

والصلاة والسلام على أفضل الخلق أجمعين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وعلى التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

وبعد فهذه كلمات منيرة وعبارات مستنيرة في ثناء الأئمة الأعلام على شيخ الإسلام بحر العلوم ترجمان القرآن مفتي الفرق أوحد المجتهدين أبي العباس أحمد تقي الدين ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية

واختلف لم قيل ابن تيمية

فقيل إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيما فرأى هناك طفلة فلما رجع وجد امرأته قد ولدت بنتا فقال يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك. وقيل إن جده محمدا كانت أمه تسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها.

ولد رحمه الله يوم الإثنين عاشر أو ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة.

وتوفي سحر ليلة الإثنين في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة عن سبع وستين سنة.

وقد أثنى الأئمة الأعلام على هذا الإمام ولقبوه بشيخ الإسلام وأفردوا مناقبه بالتصانيف وتحلت بذكره التواريخ والتآليف.

ولم يتنقص إلا من جهل مقداره وخطره ومن جهل شيئا أنكره.

ولقد أنصف العلامة الإمام قاضي قضاة الإسلام بهاء الدين بن السبكي حيث يقول لبعض من ذكر له الكلام في ابن تيمية فقال :

والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى فالجاهل لا يدري ما يقول وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به.

ولقد أنصف أيضا الشيخ الإمام والحبر الهمام محمود بن أحمد العيني إمام الحنفية في زمنه حيث قال في أثناء كلام طويل في مدحه ابن تيمية وذم من يعيبه:

وليس هو إلا كالجعل باشتمام الورد يموت حتف أنفه أو كالخفاش يتأذى ببهور سنا الضوء لسوء بصره وضعفه وليس لهم سجية نقادة ولا روية وقادة وما هم إلا صلقع بلقع سلقع صلمعه من قلمعه وهيان إن بيان وهي بن بي وصل بن ضل وضلال بن التلال.

ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية من شم العرانين الأفاضل ومن جم براهين الأماثل وأطال العيني الكلام في مدحه كما سيأتي.

واعلم أيدك الله أن كثيرا من الأئمة الأماثل والعلماء الأفاضل قد أفردوا مناقب الشيخ تقي الدين ابن تيمية في تصانيف مشهورة وتراجم في التواريخ مذكورة.

وقد ذكر غالب العلماء الذين أثنوا عليه صاحب كتاب الرد الوافر تأليف الإمام العالم الأوحد القدوة الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن ناصر الدين الشافعي.

وقد أحببت أن أذكر هنا بعض ذلك على سبيل التلخيص مع زوائد لطيفة رجاء أن أدخل في سلك أولئك الأئمة ومن كانوا بين أظهر الناس رحمة.

[ابن سيد الناس] 

فمنهم ابن سيد الناس

وهو الإمام الحافظ الفقيه العالم الأديب البارع فتح الدين أبو الفتح محمد بن الحافظ أبي عمرو محمد بن الحافظ العلامة الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي القاسم بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري الشافعي

ولد بالقاهرة سنة إحدى وسبعين وستمائة وتوفي في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة ودفن بالقرافة عند ابن أبي جمرة وكانت جنازته مشهودة وله مصنفات مفيدة ومؤلفات حميدة

قال رحمه الله في ترجمته لابن تيمية بعد أن ذكر ترجمة الحافظ المزي

وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته. برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير ويردون من بحره العذب النمير ويرتعون من ربيع فضله في روضه وغديره إلى أن دب إلى أهل بلده داء الحسد وأكب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد فحفظوا عنه في ذلك كلاما أوسعوه بسببه ملاما وفوقو لتبديله سهاما وزعموا أنه خالف طريقهم وفرق فريقهم فنازعهم ونازعوه وقاطع بعضهم وقاطعوه ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة فكشف تلك الطرائق وذكر لها على ما زعم بوائق فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعته واستعانت بذوي الضعن عليه من مقاطعته فوصلوا بالأمراء أمره وأعمل كل منهم في أمره فكره فرتبوا محاضر وألبوا للسعي بها بين الأكابر وسعوا في نقله إلى المملكة بالديار المصرية فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل وعقدوا لإراقة دمه مجالس وحشدوا لذلك قوما من عمار الزوايا وسكان المدارس من مجامل في المنازعة مخاتل بالمخادعة ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة يسومونه ريب المنونون {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} القصص، فرد الله كيد كل في نحره ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره ثم لم يخل بعد ذلك من فتنه بعد فتنة ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله وانتقاله والى الله ترجع الأمور وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور وكان يومه مشهودا وضاقت بجنازته الطريق وانتابها المسلمون من كل فج عميق يتبركون بمشهده ليوم تقوم الأشهاد ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد

ثم روى عنه ابن سيد الناس حديثا فقال قرأت على الشيخ الامام حامل راية العلوم ومدرك غاية الفهوم تقي الدين ابي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني بالقاهرة، ثم ذكر سنده إلى الحسن بن عرفة فروى من جزئه حديثا.


[ابن دقيق العيد]

ومنهم ابن دقيق العيد وهو الشيخ العلامة الإمام أحد شيوخ الاسلام قاضي قضاة المسلمين عمدة الفقهاء والمحدثين تقي الدين أو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع المنفلوطي المالكي الشافعي مات عام اثنين وسبعمائة

كان إماما حافظا فقيها ذا تحرير مالكيا شافعيا ليس له نظير وكان يفتي بالمذهبين ويدرس فيهما بمدرسة الفاضل على الشرطين وله اليد الطولى في معرفة الأصلين

ولما قدم التتار إلى أطراف البلاد الشامية سنة سبعمائة ركب ابن تيمية على البريد من دمشق إلى مصر فدخلها فى ثامن يوم وحث السلطان والعساكر على قتال التتار واجتمع به أعيان البلد ومنهم ابن دقيق العيد فسمع كلام ابن تيمية وقال له بعد سماع كلامه: «ما كنت أظن ان الله تعالى بقي بخلق مثلك»

وسئل ابن دقيق العيد بعد انقضاء ذلك المجلس عن ابن تيمية فقال هو رجل حفظة فقيل له هلا تكلمت معه فقال هو رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت.

وقال ابن دقيق العيد أيضا : لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد


[ابن الوردي]

ومنهم ابن الوردي زين الدين عمر، كان علامة متفننا في العلوم ماهرا في المنثور والمنظوم وله الأشعار الرائقة والمقاطيع الفائقة وكان باهرا في العربية درس واعاد وافتى وله مؤلفات مفيدة منها البهجة نظم الحاوي الصغير توفي بحلب سنة تسع واربعين وسبعمائة

قال في رحلته لما ذكر علماء دمشق :

وتركت التعصب والحمية وحضرت مجالس ابن تيمية فاذا هو بيت القصيدة وأول الخريدة علماء زمانه فلك هو قطبه وجسم هو قلبه يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر والبحر على القطر بحثت بين يديه يوما فاصبت المعنى فكناني وقبل بين عيني اليمنى فقلت

إن ابن تيمية ** في كل العلوم واحد

أحييت دين أحمد ** وشرعه يا أحمد

ورثاه بعد موته بقصيدة يقول فيها :

قلوب الناس قاسية سلاط وليس لها إلى العليا نشاط

اينشط بعد وفاة حبر لنا من نثر جوهره التقاط

تقي الدين ذو ورع وعلم خروق المعضلات به تخاط

قضى نحبا وليس له قرين ولا لنظيره لف القماط

فتى في علمه أضحى فريدا ** وحل المشكلات به يناط

وهي طويلة وقد ذكرتها كلها مع مراثي عديدة في كتاب المناقب فيراجع


[أبو حيان النحوي]

ومنهم أبو حيان النحوي

وهو الشيخ الإمام العلامة علم القراء أستاذ النحاة والأدباء جمال المفسرين أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الجياني الغرناطي ثم المصري الظاهري

ولد بأعمال غرناطة قاعدة بلاد الأندلس في شوال سنة أربع وخمسين وستمائة

وتوفي في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة بعد أن أضر في آخر عمره

قال القاضي الفاضل ابن فضل الله العمري : ولما سافر ابن تيمية على البريد سنة سبعمائة وحض أهل مصر على الجهاد في سبيل الله وأغلظ في القول للسلطان والأمراء ثم رتب له في مدة مقامه بالقاهرة في كل يوم دينار وتحفة وجاءته بقجة قماش فلم يقبل من ذلك شيئا، قال وحضر عنده شيخنا أبو حيان وكان علامة وقته في النحو فقال : ما رأت عيناي مثل ابن تيمية ثم مدحه أبو حيان على البديهة في المجلس فقال

لما أتينا تقي الدين لاح لنا ** داع إلى الله فرد مال له وزر

على محياه من سيما الأولى صحبوا ** خير البرية نور دونه القمر

حبر تسربل منه دهره حبرا ** بحر تقاذف من أمواجه الدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ** مقام سيد تيم إذ عصت مضر

فأظهر الحق إذ أثاره درست ** وأخمد الشر إذ طارت له الشرر

كنا نحدث عن حبر يجيء فها ** أنت الإمام الذي قد كان ينتظر

قال ثم دار بينهما كلام فيه ذكر سيبويه فقال ابن تيمية فيه كلاما نافره عليه أبو حيان وقطعه بسببه ثم عاد من أكثر الناس ذما له واتخذه له ذنبا لا يغفر.

وقال الشيخ زين الدين ابن رجب في كتابه الطبقات عن هذه الأبيات ويقال إن أبا حيان لم يقل أبياتا خيرا منها ولا أفحل انتهى

وهذه القصة ذكرها الحافظ العلامة ابن كثير في تاريخه وهي أن أبا حيان تكلم مع الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة في النحو فقطعه ابن تيمية فيها وأكزمه الحجة فذكر أبو حيان كلام سيبويه فقال ابن تيمية يفشر سيبويه، أسيبويه نبي النحو أرسله الله به حتى يكون معصوما سيبويه أخطأ في القرآن في ثمانين موضعا لا تفهمها أنت ولا هو. قال وكان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم وليس عنده مداهنة وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء.


[ابن القيم]

ومنهم ابن القيم وهو العلامة شمس الدين الحنبلي احد المحققين علم المصنفين نادرة المفسرين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الأصل ثم الدمشقي ابن قيم الجوزية وتلميذ ابن تيمية له التصانيف الأنيقة والتآليف التي في علوم الشريعة والحقيقة.

ولد سنة احدى وتسعين وستمائة ومات في رجب سنة إحدى و خمسين وسبعمائة بدمشق.

وكان قد لازم ابن تيمية واخذ عنه علما جما فكان ذا فنون من العلوم صاحب إدراك لسرائر المنطوق والمفهوم وبرع في علم الحديث بحيث انتهت اليه فيه الرئاسة.

قال الحافظ أبو بكر محمد بن المحب قلت لشيخنا الحافظ المزي: ابن القيم في درجة ابن خزيمة؟ فقال هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه.

ومن مصنفاته زاد المعاد في هدي خير العباد في أربعة مجلدات وكتاب سفر الهجرتين وباب السعادتين.

قال رحمه الله في ترجمته لابن تيمية :

شيخ الاسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصرة الدين الداعي إلى الله ورسوله المجاهد في سبيله الذي أضحك الله به من الدين ما كان عابسا وأحيى من السنة ما كان دارسا والنور الذي أطلعه الله في ليل الشبهات فكشف به غياهب الظلمات وفتح به من القلوب مقفلها وأزاح به عن النفوس عللها فقمع به زيغ الزائغين وشك الشاكين وانتحال المبطلين وصدقت به بشارة رسول رب العالمين يقول إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، وبقوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين. وهو الشيخ العلامة الزاهد العابد الخاشع الناسك الحافظ المتبع تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام ابي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإسلام ومفتي الفرق علامة الدنيا مجد الدين عبد السلام ابن الشيخ الامام العلامة الكبير شيخ الاسلام فخر الدين عبد الله بن ابي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه.

قال ابن القيم وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول : ان في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

وكان يقول : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

وكان يقول: لا بد للسالك إلى الله عز وجل بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس. وكان يتمثل كثيرا :

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ** وصوت إنسان فكدت أطير

وكان يتمثل أيضا :

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا


[ابن الزملكاني]

ومنهم ابن الزملكاني

وهو الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة جمال المناظرين كمال الدين أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن عبد الواحد بن خطيب زملكاه الأنصاري الشافعي

أخذ النحو عن ابن مالك والفقه عنه الشيخ تاج الدين بن عبد الرحمن والأصول عن قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي

وكان كثير الفضل سريع الإدراك يتوقد ذكاء وفطنة وأجمع الناس على فضله وانتهت إليه رئاسة المذهب في عصره وتولى قضاء حلب وأقام بها إلى أن طلب إلى مصر ليتولى قضاء دمشق فمات بمدينة بلبيس في رمضان سنة سبع وعشرين وسبعمائة و حمل إلى القرافة ودفن بجوار قبه الإمام الشافعي وكان مولده في شوال سنة ست أو سبع وستين وستمائة

تولى مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية غير ما مرة ومع ذلك كان يعترف بإمامته ولا ينكر فضله

قال مرة عن الشيخ تقي الدين : كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرف مثله.

وقال الحافظ ابن رجب في طبقاته : وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني أنه سئل عن الشيخ يعني ابن تيمية فقال: لم ير من خمسمائة سنة أو قال أربعمائة سنة - الشك من الناقل وغالب ظنه أنه قال من خمسمائة سنة - أحفظ منه، انتهى.

وقال ابن الزملكاني أيضا :

لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين وقد ألان الله له العلوم كما ألان الحديد لداود كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرف مثله وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أم من غيرها إلا فاق فيه أهله والمنتسبين إليه

وقد روي واشتهر وذكر وانتشر ما كتبه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل تأليف ابن تيمية هو ما نصه : من مصنفات سيدنا وشيخنا وقدوتنا الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة الكامل العارف تقي الدين شيخ الإسلام سيد العلماء قدوة الأئمة الفضلاء ناصر السنة وقامع البدعة حجة الله على العباد راد أهل الزيغ والعناد أوحد العلماء العاملين آخر المجتهدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني حفظ الله على المسلمين طول حياته وأعاد عليهم من بركاته إنه على كل شيء قدير.

وكتب ابن الزملكاني أيضا بخطه على كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام ما نصه : تأليف الشيخ الإمام العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام الأئمة قدوة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين بركة الإسلام حجة الأعلام برهان المتكلمين قامع المبتدعين محيي السنة ومن عظمت بنفعه علينا المنة وقامت به على أعدائه الحجة واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أعلى الله مناره وشيد من الدين أركانه ثم قال

ماذا يقول الواصفون له ** وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة الله قاهرة ** هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية في الخلق ظاهرة ** أنوارها أربت على الفجر



[الحافظ الذهبي]

ومنهم الحافظ الذهبي

وهو الشيخ الإمام الحافظ الهمام مفيد الشام ومؤرخ الإسلام ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين إمام أهل التعديل والجرح والمعتمد عليه في المدح والقدح شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان التركماني الفارقي الأصل ثم الدمشقي

ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة ومات بدمشق سنة ثمان وأربعين وسبعمائة

ومشيخته بالسماع والإجازة نحو ألف شيخ وثلاثمائة يجمعهم معجمه الكبير

وكان آية في نقد الرجال عمدة في الجرح والتعديل عالما بالتفريع والتأصيل إماما في القراءات فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف

ومن كلامه رحمه الله

الفقه قال الله قال رسوله ** إن صح والإجماع فاجهد فيه

وحذار من نصب الخلاف جهالة بين النبي وبين رأي فقيه

وله المؤلفات المفيدة والمصنفات السديدة منها تاريخ الإسلام في عشرين مجلدا وسير النبلاء في عشرين مجلدا وميزان الاعتدال في نقد الرجال وغير ذلك

وهو الذي قال فيه بعض العلماء الأعلام عند اجتماعه به بدمشق والشام

ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت ** أخباركم قط إلا ملت من طرب

وليس من عجب أن ملت نحوكم ** فالناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب

وقد ترجم الذهبي هذا ابن تيمية في عدة مواضع وأثنى عليه ثناء حسنا فقال في كتابه طبقة سماع كتاب رفع الملام عن الائمة الأعلام : سمع هذا الكتاب على مؤلفه شيخنا الامام العالم العلامة الأوحد شيخ الاسلام مفتي الفرق قدوة الامة اعجوبة الزمان بحر العلوم حبر القرآن تقي الدين سيد العباد ابي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه، وذكر بقية الطبقة

وكتب الذهبي ايضا تحت خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية :

هذا خط شيخنا الإمام شيخ الإسلام فرد الزمان بحر العلوم تقي الدين قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ برع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وله نحو العشرين وصنف التصانيف وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجمع وكان يتوقد ذكاء وسماعاته من الحديث كثيرة وشيوخه أكثر من مائتي شيخ ومعرفته بالتفسير اليها المنتهى وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلا عن المذاهب الاربعة فليس له فيه نظير وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرا ويدري جملة صالحة من اللغة وعربيته قوية جدا ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والمشرب، انتهى.

وقال الذهبي أيضا في ترجمة ابن تيمية :

وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة ولما كان معتقلا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته وينص على أسماء جملة منها فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح والسقيم مع حفظه لمتونه فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه وهو عجب في استحضار واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث ولكن الإحاطة لله غير أنه يغترف من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام الديل عليه عنده ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه وبدعوه وناظروه وكاتبوه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أداه إليه إجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر منه من الورع وكمال الفكر وسعة الإدراك والخوف من الله العظيم والتعظيم لحرمات الله فجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحد فينجيه الله تعالى فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا بلسانه وقلمه. وأما شجاعته فيها تضرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه وقام وقعد وطلع وخرج واجتمع بالملك مرتين وبخطلو شاه وببولاي وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول. وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله ولا رأى هو مثل نفسه في العلم.

وقال الذهبي أيضا :

وكان - يعني ابن تيمية - آية من الذكاء وسرعة الإدراك رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف بحرا في النقليات هو في زمانه فريد عصره علما وزهدا وشجاعة وسخاء وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وكثرة تصانيف وقرأ وحصل وبدع في الحديث والفقه وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة وتقدم في علم التفسير والأصول وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها ودقها وجلها فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق وإن حضر الحفاط نطق وخرسوا وسرد وأبلسوا واستغنى وأفلسوا وإن سمي المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلهم وهتك استارهم وكشف عوارهم وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة وهو أعظم من أن تصفه كلمي وينبه على شأوه قلمي فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته يحتمل أن توضع في مجلدين فالله تعالى يغفر له ويسكنه أعلى جنته فإنه كان رباني الأمة وفريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب معضلات المسلمين رأسا في العلم يبالغ في أمر قيامه بالحق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد ولا لحظتها من فقيه.

وقال الذهبي أيضا : جمعت مصنفات شيخ الاسلام تقي الدين ابن تيمية فوجدت ألف مصنف ثم رأيت له أيضا مصنفات أخر.

وتراجم الذهبي لابن تيمية أشهر من أن تذكر وأكثر من تحصر رحمه الله تعالى

ورثاه الذهبي بعد موته بقوله

يا موت خذ من أردت أو فدع ** محوت رسم العلوم والورع

أخذت شيخ الإسلام وانفصمت ** عرى التقى واشتفى أولو البدع

غيبت بحرا مفسرا جبلا ** حبرا تقيا مجانب الشبع

فإن تحدث فمسلم ثقة ** وإن يناظر فصاحب اللمع

وإن يخض نحو سيبويه يفه ** بكل معنى من الفن مخترع

وصار عالي الإسناد حافظه ** كشعبة أو سعيد الضبعي

والفقه فيه فكان مجتهدا ** وذا جهاد عار من الجزع

وجوده الحاتمي مشتهر ** وزهده القادري في الطمع

أسكنه الله في الجنان ولا ** زال عليا في أجمل الخلع

مع مالك والإمام أحمد والنعمان والشافعي والخلعي

مضى ابن تيمة وموعده ** مع خصمه يوم نفخة الفزع


[الحافظ المزي]

ومنهم الحافظ المزي

وهو الشيخ الإمام حافظ الإسلام محدث الأعلام الحبر النبيل أستاذ أئمة الجرح والتعديل شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف القضاعي ثم الكلبي الحلبي الدمشقي ثم المزي الشافعي

ولد بظاهر حلب سنة أربع وخمسين وستمائة ونشأ بالمزة وسمع الكثير من الكتب الطوال والقصار والأجزاء الكبار وغير الكبار ورحل إلى عدة من الأمصار وصنف كتاب التهذيب وكتاب الأطراف وخرج لغير واحد التخاريج المطولة واللطاف. وكان غزير العلم ثقة حجة حسن الأخلاق صادق اللهجة ترافق هو وابن تيمية شيخ الإسلام في السماع والنظر في علوم مع عدة من الأعلام.

مات في عام اثنين وأربعين وسبعمائة بدمشق ودفن بجوار ابن تيمية وكانت جنازته مشهودة وهو الذي قال فيه بعض العلماء الأفاضل

ما زلت أسمع عن إحسانكم خبرا ** الفضل يسنده عنكم ويرفعه

حتى التقينا فشاهدت الذي سمعت ** أذني وأضعف ما كنت أسمعه

حدث غير واحد من الشيوخ عن المزي أنه قال عن ابن تيمية :

ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله ولا أتبع لهما منه

وقال المزي أيضا عن ابن تيمية : ابن تيمية لم ير مثله منذ أربعمائة سنة

وكتب المزي على كتاب ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية تصنيف ابن عبد الهادي ما صورته :

كتاب مختصر في ذكر حال الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية وذكر بعض مصنفاته ومناقبه جمع الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي.

وكتب المزي أيضا بخطه طبقة سماع على الجزء الثاني من حديث الحسن بن علي الجوهري ما صورته :

سمع هذا الجزء على المشايخ الثلاثة الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية والإمام علم الدين البرزالي بقرأته من لفظه وكاتب السماع يوسف ابن الركي

وقد قال قاضي القضاة صالح بن عمر البلقيني الشافعي لقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في ترجمة أبيه الشيخ تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه وللشيخ تقي الدين ابن تيمية وللشيخ شمس الدين بن أبي عمر الحنبلي


[الحافظ البرزالي]

ومنهم الحافظ البرزالي

وهو الشيخ الإمام الحافظ الثقة الحجة مؤرخ الشام وأحد محدثي الإسلام مفيد المحدثين علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي الإشبيلي الأصل الدمشقي صاحب التاريخ الخطير والمعجم الكبير

كان بأسماء الرجال بصيرا وناقلا لأحوالهم نحريرا.

ولد سنة خمس وستين وستمائة بدمشق ومات بخليص محرما في ثالث ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة

ولقد حكى بعض مشايخنا عنه أنه كان إذا قرأ الحديث ومر به حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي كان مع النبي ﷺ فوقصته ناقته وهو محرم فمات الحديث وفيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا فكان إذا قرأه البرزالي يبكي ويرق قلبه فمات بخليص محرما

وفيه يقول الذهبي :

إن رمت تفتيش الخزائن كلها ** وظهور أجزاء حوت وعوالي

ونعوت أشياخ الوجود وما رووا ** طالع أو أسمع معجم البرزالي

وفيه يقول الشيخ الإمام ابن الموصلي الطرابلسي :

ما زلت أسمع عنك كل عارفة ** لمثلها أو إليها ينتهي الكرم

وكنت بالسمع أهواكم فكيف وقد ** رأيتكم وبدا لي في الهوى علم

كتب البرزالي بخطه سماع طبقة على جزء فيه أحاديث منتقاة من جزء الحسن بن عرفة وهي : قرأ هذه الأحاديث الثمانية شيخنا وسيدنا الإمام العالم العلامة الأوحد القدوة الزاهد العابد الورع الحافظ تقي الدين شيخ الإسلام والمسلمين سيد العلماء في العالمين حبر الأمة مقتدي الأئمة حجة المذاهب مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أدام الله بركته ورفع درجته.

وقد ذكر البرزالي في معجم شيوخه الشيخ تقي الدين فقال :

أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه قرأ القرآن وبرع فيه والعربية والأصول ومهر في علمي التفسير والحديث وكان إماما لا يلحق غباره في كل شيء وبلغ رتبة الاجتهاد واجتمعت فيه شروط المجتهدين وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظة وحسن إيراده وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال وخوضه في كل علم كان الحاضرون يقضون منه العجب هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة والاشتغال بالله تعالى والتجرد من أسباب الدنيا ودعاء الخلق إلى الله تعالى.

وكان يجلس في صبيحة كل جمعة يقرأ على الناس تفسير القرآن العظيم فانتفع بمجلسه وبركة دعائه وطهارة أنفاسه وصدق نيته وصفاء ظاهره وباطنه وموافقة قوله لعمله وأناب إلى الله تعالى خلق كثير وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر والتقلل من الدنيا ورد ما يفتح به عليه

وقال البرذالي في تاريخه بعد أن ذكر وفاة ابن تيمية ووصف دفنه وشدة الزحام عليه ثم قال :

وخلق كثير سمع منهم الحديث وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والإثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين وقل أن يسمع شيئا إلا حفظه ثم اشتغل بالعلوم وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره وكان عالما باختلاف العلماء عالما بالأصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية وما قطع في مجلس مناظرة ولا تكلم معه فاضل في فن من فنون العلم إلا ظن أن ذلك الفن فنه ورآه عارفا به متقنا له. وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله متضلعا من ذلك

وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع وأثنى عليه وعلى فضائله وعلومه جماعة من علماء عصره مثل ابن دقيق العيد وابن النحاس والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم


[الحافظ ابن رجب]

ومنهم الحافظ بن رجب

وهو الشيخ الإمام العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة واعظ المسلمين مفيد المحدثين زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام المقرىء المحدث أحمد بن رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي

أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد توفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة بدمشق. وقد حدّث من حفر لحد ابن رجب أن الشيخ ابن رجب جاء قبل أن يموت بأيام قال فقال لي احفر لي هنا لحدا وأشار إلى البقعة التي دفن فيها قال فحفرت له فلما فرغ نزل في القبر واضطجع فيه فأعجبه وقال هذا جيد ثم خرج قال فوالله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أوتي به ميتا محمولا في نعشه فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.

له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة منها شرح جامع الترمذي وشرح من أول صحيح البخاري إلى الجنائز شرحا نفيسا وله كتاب طبقات أصحاب مذهبه جعله ذيلا على من بدأ به وهو القاضي أبو يعلى بن الفراء

قال فيه :

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الإمام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ المفسر الأصولي الزاهد تقي الدين أبو العباس شيخ الإسلام وعلم الأعلام وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره

ثم ذكر ابن رجب ترجمة ابن تيمية وفيها ذكر موته ودفنه ثم قال : وصلى عليه صلاة الغائبة في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة حتى في بلاد اليمن والصين وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة الصلاة على ترجمان القرآن


[الحافظ ابن عبد الهادي]

ومنهم الحافظ ابن عبد الهادي

وهو الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد ذو الفنون عمدة المحدثين متقن المحررين شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الصالحي الحنبلي

ولد سنة أربع أو خمس وستمائة وقرأ القرآن بالروايات وسمع ما لا يحصى من المرويات وعني بالحديث وأنواعه ومعرفة رجاله وعلله وتفقه وأفتى ودرس وجمع وألف وكتب الكثير وصنف وتصدى للإفادة.

ومن مصنفاته تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق مجلدان والمحرر في الأحكام والكلام على أحاديث مختصر ابن الحاجب مؤلفان مطول ومختصر وجزء في الرد فيما أورده على ابن مالك وجمع التفسير المسند لكنه مات قبل إتمامه.

وكان إماما في علوم كالتفسير والحديث والأصول والفقه واللغة والعربية

وذكره الحافظ الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وفي طبقات الحفاظ وأثنى عليه فيهما ثناء حميدا وقال والله ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه

مات سنة أربع وأربعين وسبعمائة بدمشق وكانت جنازته حافلة.

ومن مصنفاته كتاب مناقب ابن تيمية في مجلد قال فيه :

هو الشيخ الإمام العالم العامل الرباني إمام الأئمة وعلامة الأمة ومفتي الفرق وبحر العلوم سيد الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ فريد العصر ووحيد الدهر شيخ الإسلام بركة الأنام علامة الزمان وترجمان القرآن وعلم الزمان وأوحد العباد قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني نزيل دمشق وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها ولا يلحق في شكلها توحيدا أو تفسيرا وإخلاصا وفقها وحديثا ولغة ونحوا وجميع العلوم كتبه طافحة بذلك وانتهت اليه الإمامة في العلم والعمل والزهد والورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والأمانة والعفة والصيانة وحسن القصد والإخلاص والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه والمراقبة له وشدة التمسك بالآثر والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق ونفع الخلق والإحسان إليهم والصبر على من آذاه والصفح عنه والدعاء له وسائر أنواع الخير. وكان رحمه الله سيفا مسلولا على المخالفين وشجا في حلوق أهل الأهواء من المبتدعين وإماما قائما ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحرا لا تكدره الدلاء وحبرا يقتدي به الرجال الألباء وطافت بذكره الأمصار وضنت بمثله الأعصار واشتغل بالعلوم وكان ذكيا كثير المحفوظ إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه واختلاف العلماء والأصلين والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية وما تكلم معه فاضل في فن إلا ظن أن ذلك الفن فنه ورآه عارفا به متقنا له وأما الحديث فكان حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله متضلعا من ذلك وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الفروع والأصول

ولقد أثنى عليه وعلى فضائله جماعة من علماء عصره ولقد ترجمه ابن عبد الهادي هذا بشيخ الإسلام مدار أكثر وذكر من مناقبه في ترجمته أشياء خطيرة وعد كثيرا من مصنفاته ونص على نفائس من مؤلفاته وذكره في كتابه طبقات الحفاظ بترجمة مختصرة ونعوت جامعة محررة من أوصاف الأئمة رحمه الله تعالى.

وقال : منَّ الله تعالى على الشيخ بسرعة الكتابة ويكتب من حفظه من غير نقل، قال وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلدا لطيفا في يوم وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأحصيت ما كتبه في يوم وبيّضه فكان ثمانية كراريس في مسألة من أشكل المسائل وكان يكتب على السؤال الواحد مجلدا وأما جواب يكتبه فيه خمسين ورقة وستين فكثير جدا.

[ابن فضل العمري]







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة