زعمه أن العلماء لم يعنوا بالأحاديث والرد عليه .. عناية المحدثين بنقد السند والمتن .. السر في اتئاد المحدثين في نقد المتون .. زعمه أن الأحاديث كلها رويت بالمعنى
النَّقْدُ التَّفْصِيلِيُّ :
زَعْمُهُ أَنَّ العُلَمَاءَ لَمْ يَعْنُوا بِالأَحَادِيثِ وَالرَدِّ عَلَيْهِ :
قال في [ص 4، 5]: «وعلى أنه - أي الحديث - بهذه المكانة الجليلة ... فإنَّ العلماء والأدباء لم يُولُوهُ ما يستحقُّ من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يُسَمَّوْنَ رجال الحديث، يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم، وطريقة هذه الفئة التي اتَّخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل فترى المُتَقَدِّمِينَ منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رُواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم أنْ كان ما يصدر من هؤلاء صحيحاً في نفسه أو غير صحيح، معقولاً أو غير معقول، ثم جاء المتأخِّرون منهم فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من سبقهم، ووقف هؤلاء عند ظواهر الحديث كما أَدَّتْ إليه الرواية .... من غير بحث ولا تمحيص لها» إلخ ما قال.
وقد تأثَّر المؤلف بِالمُسْتَشْرِقِينَ والمُبَشِّرِينَ الذين لم يمكنهم أنْ يَتَحَرَّرُوا من سلطان الهوى والتعصُّب في هذا البحث، بل - والحق يقال - أسرف في الحُكْم على الأحاديث أكثر مِمَّا أسرفوا، حتى جاء بحثه ضَغْثاً على إبالة.
وإليك الجواب كي يتَّضح الحق والصواب:
1 - لا أدري ماذا يريد المؤلف بقوله، فإنْ أراد علماء الفقه والتشريع فها هُمْ قد بذلوا في ذلك غاية الوسع، وَأَوْلَوْهُ ما يستحق من العناية والدرس، وبحسبك أنْ تستعرض الكتب التي أُلِّفَتْ في أحاديث الأحكام وشروحها لترى في ذلك عشرات المجلَّدات والموسوعات، وإنْ أراد علماء الدراية بالأحاديث فقد أوفوا في بحث متون الأحاديث وشرحها وتحليلها على الغاية، ولم يَدَعُوا ناحية من نواحيه الخصبة حتى قتلوها بحثاً، وما من كتاب من كتب الحديث المعتمدة إِلاَّ ووضعت له الشروح المتكاثرة، وبحسبك أنْ تتناول فهرساً من فهارس المكتبات العامة لترى إلى أَيِّ حَدٍّ عني العلماء المسلمون بالأحاديث النبوية عناية فائقة قد لا يربو عليها إِلاَّ عنايتهم بالقرآن الكريم، وخَلَّفُوا لنا في ذلك ثروة ضخمة، حتى أنها لقيمتها العلميَّة ونفاستها جذبت
فئة من العلماء غير المسلمين إلى البحث فيها وقضاء الأعمار في العناية بها.
وإنْ أراد علماء الأخلاق والمواعظ، فقد جعلوا الأحاديث النبوية نَبْعاً فَيَّاضًا لما أَلَّفُوهُ من الكتب فيهما، وكذلك علماء البلاغة والأدب فقد أكثروا من الاستشهاد بالأحاديث في كتبهم، وعنوا بها من حيث اختصاصهم، وأَلَّفَ بعضهم في ذلك كُتُباً تكشف عَمَّا في الأحاديث من جمال فني وأدبي، كما فعل الإمام الشريف في كتابه " المجازات النبوية "، والمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه " البلاغة النبوية " الذي جعله مُتَمِمَّا لكتابه " إعجاز القرآن ".
ثم ماذا كان يريد المؤلف من العلماء غير المُحَدِّثِينَ والأدباء؟ أكان يريد منهم أنْ يُجَاوِزُوا طورهم - كما جاوز طوره - فَيَدُسُّوا أنوفهم فيما ليس من صناعتهم ويُمَيِّزُوا بين الصحيح والضعيف والمقبول والمردود والغث والسمين؟.
إنَّ علماء الأدب وأضرابهم مِمَّنْ ليسوا من رجال الحديث وصيارفته أكرم على أنفسهم مِنْ أَنْ يقفوا ما ليس لهم به علم، وأنْ يَزُجُّوا بأنفسهم في علوم ومعارف ليسوا أهلاً لها.
2 - محاولة المؤلف هنا وفي غير موضع من كتابه الإزراء بالمُحَدِّثِينَ وغمزهم ولمزهم ورميهم بالجمود لن يُقَلِّلَ من أقدارهم ولن ترفع من شأنه، بل هي عند الباحثين والعَالِمِينَ مِمَّا يزري بالنقد ويلحقه بالشتيمة والسباب، وإنَّ ما وضعه المُحَدِّثُونَ من قواعد لنقد الراوي والمروي هي أدق وأرقى ما وصل إليه علم النقد في القديم والحديث، والمُتَأَخِّرُونَ لم يأتوا في ذلك بأمر جديد ذي خطر، اللَّهُمَّ إِلاَّ في الاستفادة بما جَدَّ من المعارف النفسية والتوسُّع في التطبيق، ولو أنصف المؤلف لعقد مقارنة بين قواعد المُحَدِّثِينَ وقواعد غيرهم مِمَّنْ يرتضيهم، ثم خلص من ذلك إلى نتيجة صادقة، أمَّا وقد رمى بها قولة مُجْمَلَة من غير بُرهان فبحسبنا في الرَدِّ عليه هذا الإجمال، وعندما أتعرَّض لمَبْحَثَيْ العدالة والضبط سأفصل فيهما القول، كي يتَّضح أنَّ قواعد المُحَدِّثِينَ ليست جامدة ولا قاصرة.
عِنَايَةُ المُحَدِّثِينَ بِنَقْدِ السَّنَدِ وَالمَتْنِ :
لا أدري كيف سَوَّلَتْ للمؤلف نفسه أنْ يزعم أنَّ المُحَدِّثِينَ حصروا عنايتهم في السند دون المتن الخ؟! وكيف يتَّفق هذا وما ذهبوا إليه من الحُكْمِ على متن الحديث بالشذوذ والنكارة والاضطراب والتعليل والوضع والاختلاق، وما وضعوه من
أمارات يُسْتَدَلُّ بها على الحديث بالوضع؟ لقد جعلوا من إمارات الموضوع ركاكة اللفظ بحيث يشهد الخبير بالعربية أنَّ هذا لن يصدر من فصيح فضلاً عن أفصح الفصحاء، وركاكة المعنى كَأَنْ يكون مشتملاً على مُحَالٍ، واشتمال الحديث على مجازفات ومبالغات لا تصدر من عاقل حكيم، والمخالفة لِلْحِسِّ والمشاهدة، والمخالفة لصريح القرآن أو السُنَّة المتواترة أو المُسَلَّمَةِ أو الإجماع مع تَعَذُّرِ التأويل المقبول في كل ذلك، أو يتضمن الحديث أمراً مُسْتَحْدَثاً لم يوجد في العهد النبوي أو إلى غير ذلك مِمَّا أفاضت فيه كتب تاريخ الوضع في الحديث (1) قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ : «إِنَّ [مِنَ الْحَدِيثِ حَدِيثًا] لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ [نَعْرِفُهُ] , وَإِنَّ [مِنَ الْحَدِيثِ حَدِيثًا] لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ نُنْكِرُهُ» وقال الإمام ابن الجوزي : «مَا أَحْسَنَ قَوْلَ القَائِلِ : كُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ تُخَالِفُهُ العُقُولُ وَتُنَاقِضُهُ الأُُصُولُ وَتُبَايِنُهُ النُقُولُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ» وللمُحَقِّقِ ابن القيم في ذلك كلام قَيِّمٌ نقله علي القاري في " موضوعاته "، ومن عجيب أمر المؤلف أنه ذكر نحواً من ذلك [ص 104، 105] من كتابه، ولا ندري كيف يَتَّفِقُ قوله أو لا هو وما ذكره عن المحققين آخراً؟!
ولكي تزداد يقينًا في هذا أسوق لك بعض نُقُودِ المُحَدِّثِينَ للمتون، وستتأكد أنَّ دعوى حصر العناية بالنقد في السند دون المتن دعوى مردودة.
قال ابن الجوزي في الحديث الموضوع : «شَكَوْتُ إِلَى جِبْرِيلَ رَمَدَ عَيْنِي فَقَالَ لِي: [أَدِمْ] النَّظَرَ إِلَى المُصْحَفِ». قال ابن الجوزي : وأين كان في العهد النبوي مصحف حتى ينظر فيه؟.
وقال الحافظ بن حجر في تزييف الحديث الموضوع «أَتَانِي جِبْرِيلُ بِسَفَرْجَلَةٍ، فَأَكَلْتُهَا لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَعَلِقَتْ خَدِيجَةُ بِفَاطِمَةَ ... ». قال الحافظ : الوضع عليه ظاهر، فإنَّ فاطمة ولدت قبل الإسراء بالإجماع.
وقال ابن القيم في نقد الحديث الموضوع : «إِذَا عَطَسَ الرَّجُلُ عِنْدَ الحَدِيثِ فَهُوَ صِدْقٌ» قال : هذا، وإنْ صَحَّحَ بعض الناس سنده فالحِسُّ يشهد بوضعه، لأنَّا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله، ولو عطس ألف رجل عند ذكر حديث يُرْوَى
_________
(1) لقد ذكرت في كتابي " الوضع في الحديث " من أمارات الوضع أربع عشرة أمارة وجُلُّها مِمَّا يرجع إلى المتن، وسيطبع إن شاء الله.
___________________
عن النَّبِي لم يحكم بِصَحَّتِهِ بالعطاس.
فانظر إلى أَيِّ مبلغ اعتماد أئمة الحديث على نقد المتن حتى وإنْ كان السند غير وَاهٍ ساقط أو ضعيف.
ومثل حديث وضع الجزية على أهل خيبر الذي قرنه واضعه بشهادة سعد بن معاذ، فقد قالوا في نقده : إنَّ سعد بن معاذ توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، وأيضاً الجزية لم تكن نزلت ولا يعرفها الصحابة ولا العرب، وإنما نزلت بعد عام تبوك وفيه أنه وضع عنهم الكلفة (السخرة) مع أنه لم يكن في زمنهم شيء من ذلك. إلى غير ذلك من النقود التي أوصلها العلماء في هذا الخبر إلى عشرة أوجه (1).
وغير هذا كثير جداً يوجد في تضاعيف الكتب المُؤَلَّفَةِ في الموضوعات والكشف عن أدوائها ومعايبها، فهل بعدما ذكرنا يقال إنهم حصروا عنايتهم في نقد السند دون المتن؟!!
السِرُّ في اتِّئَادِ المُحَدِّثِينَ فِي نَقْدِ المُتُونِ :
نعم نحن لا ننكر أنَّ المُحَدِّثِينَ توسَّعوا في نقد السند أكثر من توسُّعهم في نقد المتن، وذلك سِرٌّ نحب أنْ نُجْلِيَهُ للقُرَّاء والبَاحِثِينَ.
وفي الحق أنَّ علماء الحديث كانوا أبعد غوراً، وَأَدَقَّ نظراً، وأهدأ بالاً حينما لم يَجْرُوا في نقد المتن الأشواط البعيدة التي جَرَوْهَا في نقد السند، وذلك لاعتبار ديني لاَحَظُوهُ في السُنَّةِ عند الاكتفاء بصلاح الراوي وتقواه وعدالته ظاهراً وباطناً وضبطه وحفظه وتوقِِّّيه الكذب على رسول الله - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - في نَصٍّ هو أصل ومرجع في الدين، فمتى توفََّّرت العدالة بشروطها مع الضبط والحفظ والأمانة والتحرُّج من التزيُّد والتغيير كان احتمال الكذب والاختلاف بعيداً جداً إنْ لم يكن مُمْتَنِعاً، وإذاً فلم يبق بَعْدُ من حاجة للمُبالغة في نقد المتن وذلك لأنَّ متن الحديث :
[أ] قد يكون متشابهاً غير مفهوم العبارة فلا مَحَلَّ - مع هذا الاحتمال - لتحكيم النقد العقلي المُجَرَّدِ في المتن، إذ مثل هذا المتشابه مِمَّا لا تستقلُّ العقول بإدراكه، ولا يدرك المُرَادُ منه إِلاَّ من الله أو عن رسوله المُبَلِّغُ عنه، والواجب إمَّا
______
(1) " الموضوعات "، القاري: ص 119.
___________________
الإيمان به كما ورد مع تفويض علم حقيقته إلى الله والتنزيه عن الظاهر المستحيل، وإمَّا التأويل بما يوافق العقل وما أحكم من النقل، وذلك مثل أحاديث الصفات ونحوها.
[ب] وقد يكون متن الحديث ليس من قبيل الحقيقة بل من قبيل المجاز فرفضه - باعتبار حمله على الحقيقة استناداً إلى أنَّ العقل أو الحِسَّ والمشاهدة لا تُقِرُّهُ مع إمكان حمله على المجاز المقبول لغةً وشرعاً - تَهَجُّمٌ وَتَنَكُّرٌ لقواعد البحث العلميِّ الصحيح، وذلك مثل حديث ذهاب الشمس بعد غروبها وسجودها تحت العرش المَرْوِيِّ في الصحيح (1) فلو حملناه على حقيقته لأَدَّى ذلك إلى البُطلان، على حين لو حمل على المجاز المُسْتَسَاغِ لظهر ما فيه من سر وبلاغة، فسجود الشمس المراد به خضوعها وسيرها طِبْقَ إرادته - سُبْحَانَهُ - وعدم تَأَبِّيهَا عن النظام الدقيق المُحْكَمِ الذي فطرها الله عليه واستمرارها عليه من غير انقطاع ولا فُتُورٍ ومثل هذا الحديث يقصد به حَثَّ الخلق على الخضوع والإذعان لله رب العالمين، فإذا كانت الشمس على عظمها في غاية الخضوع لله فما أجدر الإنسان المخلوق الضعيف - وبخاصة عابدوها - بالخضوع لله والإيمان به، ومثل هذا الأسلوب سائغ شائع، فها نحن أولاء نرى العرب يقولون :
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى * ... * ... * صَبْرًا جَمِيلاً فَكِلاَنَا مُبْتَلَى
ولا شكوى ولا كلام، وإنما مجاز وتمثيل، فانظر إلى الروعة في التمثيل، ولو جاء على غير هذه الطريقة لخلا من هذه الروعة، ومثل هذا التمثيل البديع قد جاء في القرآن المتواتر الذي لا يتطرَّق إليه الشك مثل قوله سبحانه: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} (2) فليس بِبِدَعٍ أنْ تجيء به الأحاديث.
[ج] وقد يكون متن الحديث من قبيل المُغَيَّبَات كأحوال القيامة واليوم الآخر فردها - تحكيما للعقل فيها وبناء على قياس الغائب على الشاهد - ليس من
______
(1) روى البخاري في " صحيحه " عن أبي ذر قال: قال لي النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [سورة يس، الآية: 38]».
(2) [سورة الرعد، الآية: 13].
(2) [سورة الرعد، الآية: 13].
___________________
الإنصاف، وذلك كالأحاديث الواردة في صفة الجنة ونعيمها والنار وعذابها ونحو ذلك.
[د] وقد يكون متن الحديث من الأخبار التي كشف العلم عن مساتيرها واعتبرت من المعجزات النبويَّة إلى أنْ جاءت الأيام بتصديقها وذلك مثل الحديث الصحيح: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ». فقد أثبت بعض الأطباء (1) أثر التراب الفَعَّالِ في قتل وإزالة الميكروب المتخلف عن سُؤْرِ الكلب، على حين كان بعض المارقين يعتبرون مثل هذا مجازفة وتعنُّتاً في التشريع، وأما المؤمنون فكانوا يعتبرونه من قبيل التَعَبُّدِ حين خفيت عنهم الحكمة.
أرأيت أيها المُنْصِفُ لو أنَّ العلماء المُحَدِّثِينَ تَمَسَّكُوا بالنظر السطحي وتسرَّعوا في الحُكْم ببطلان هذا الحديث وأمثاله مِمَّا خفي وجه الحكمة فيه ثم ظهرت بعد ذلك الحكمة واضحةً، ألاَ يكون ذلك جهالة في البحث وقصوراً في النظر، وَإِجْحَافاً بحق صاحب الرسالة - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ثم ألاّ ترى معي أنَّ المُحَدِّثِينَ كانوا على حَقٍّ في المسلك الذي انتهجوه؟ ما زعمه في [ص 6]: «من أنَّ المُحَدِّثِينَ جميعا أهملوا أمراً خطيراً كان يجب أنْ يعرف قبل النظر في هذا العلم ودرس كتبه، ذلك هو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدَّث به الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - وهل أمر بكتابة هذا النص أو تركه ونهى عن كتابته وهل دَوَّنَ الصحابة ومن بعدهم أو انصرفوا عن تدوينه؟ وهل ما روي قد جاء مطابقاً لحقيقة ما نطق به النَّبِي لفظاً ومعنى أو كان مخالفاً له؟ ... ثم في أَيِّ زمن دَوَّنَ ما حملته الرواية منه؟ ... وماذا كان موقف علماء الأمَّة منه ... إلخ ما قال».
زعم ليس له ما يؤيِّده ولا يخرج عن كونه إجحافاً صارخاً بحق أئمة الحديث فيما أفنوا أعمارهم فيه، فهذه المباحث التي عرض لها وغيرها قد أكثر العلماء فيها البحث والتمحيص، ووجدتُ في عشرات من كتب أصول الحديث، وبحسبك أنْ ترجع إلى " علوم الحديث " للحاكم أبي عبد الله والإمام ابن الصلاح، و" ألفية الحديث " للحافظ العراقي، و" التدريب " للإمام النووي، و " الباعث الحثيث "
______
(1) " الإسلام والطب " للدكتور محمد وصفي: ص 286.
___________________
للحافظ ابن كثير، و" نخبة الفكر" وشرحها للحافظ ابن حجر، و" التدريب " للحافظ السيوطي، وعشرات الشروح التي وضعت لها، و" ظفر الأماني " للعلامة اللَّكَنَوِي و" توجيه النظر " للشيخ طاهر الجزائري، وغير هذه الكتب كثير مِمَّا أُلِّفَ في القديم والحديث، بحسبك - أيها الطالب للحقيقة - أنْ ترجع إلى أَيِّ كتاب منها، وستعلم علم اليقين أنَّ ما زعم صاحب " الأضواء " أنهم أهملوه، قد عقدوا له الأبواب والبحوث المستفيضة، وأنه تجنَّى على أئمة الحديث ما شاء له هواه أنْ يتجنَّى.
زَعْمُهُ أَنَّ الأَحَادِيثَ كُلُّهَا رُوِيَتْ بِالمَعْنَى :
ذكر المؤلف [ص 8] أنه بعد أنْ لبث زمناً طويلاً يبحث وينقِّب بعد أنْ أخذ نفسه بالصبر والأناة، انتهى إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة «ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث (كلها) - مِمَّا سَمَّوْهُ صحيحاً أو ما جعلوه حسناً - حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه كما نطق به الرسول ... وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة، وذلك في القلة والندرة، وتبيَّن لي أنَّ ما يسمُّونه في اصطلاحهم حديثاً صحيحاً إنما كانت صحَّته في نظر رُواته لا أنه صحيح في ذاته».
وقد بلغ المؤلف الغاية في المجازفة في الحُكْم، ونحن لا نقول: إِنَّ الأحاديث كلها رُوِيَتْ بألفاظها، وكيف وقد ثبت أنَّ القصة الواحدة أو الواقعة رُوِيَتْ بألفاظ مختلفة وإنْ كان المعنى واحداً؟ ولا نقول: إنَّ الأحاديث كلها رُوِيَتْ بالمعنى - كما زعم - وكيف ومن الأحاديث ما اتفقت الروايات على لفظها؟ أفلا يدل اتفاق الروايات على اللفظ أنَّ هذا حقيقة اللفظ المسموع من الرسول؟ ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب، وأنها لن تخرج إِلاَّ من مشكاة النبوَّة، ومن قبل أدرك أئمة في اللغة والبيان هذه الحقيقة فألَّفُوا الكتب في البلاغة النبوية.
ومِمَّا ينبغي التنبه إليه أنَّ أكثر ما ترد الرواية باللفظ في الأحاديث القصيرة، على أنَّ وُرُودَ الرواية بالمعنى في الأحاديث الطويلة إنما تكون في الكلمة والكلمتين والثلاث، وقلَّما تكون الرواية بالمعنى في جميع ألفاظ الحديث، وهذا شيء نقوله عن دراسة واستقراء، وليس أدل على ذلك من أنَّ حديث «بدء الوحي» المروي عن السيدة عائشة في " الصحيحين " وغيرهما - وهو من الأحاديث الطويلة - لا تكاد تجد الرُواة اختلفوا فيه إِلاَّ في بعض ألفاظ قليلة نادرة، وبحسبنا هذا الآن، وعند مناقشته في بحث الرواية بالمعنى الذي عقده في كتابه سأفيض في الرَدِّ عليه، وسأبيِّن أنَّ بعض ما استدل به هو دليل عليه لا له، وإليك ما قال في هذا الشأن إمام من أئمة الحديث - غير مدافع - وهو الحافظ ابن حجر قال : «ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبوية حديث عائشة «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»، وحديث: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» متفق عليهما، وحديث أبي هريرة : «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وحديث المقداد: «مَا مَلأََ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ» الحديث أخرجه الأربعة وَصَحَّحَهُ ابن حِبَّان والحاكم، إلى غير ذلك مِمَّا (يكثر) بالتتبع، وإنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرُواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أنْ تقل مخارج الحديث وتتفق ألفاظه (1).
وأزيد على ما ذكره الحافظ حديث : «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيْدِهِ».
وحديث : «النَّاسُ كَإِبِلٍ لاَ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً».
وحديث : «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
وحديث : «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ» ... إلخ.
وحديث : «وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».
وحديث : «إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ».
وحديث «الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ».
إلى غير ذلك من الأحاديث المتكاثرة التي جاءت على حقيقة لفظها ومحكم تركيبها.
أما ما ادَّعاه من أنه تبيَّن له أنَّ ما سَمَّوْهُ صحيحاً إنما هو في نظر رُواته لا أنه صحيح في ذاته، فشيءٌ سبق به من ألف سَنَةٍ أو تزيد، فقد قال أئمة الحديث: إنَّ الحُكْم على الحديث بالصحة أو الحُسن أو الضعف إنما هو بحسب ما ظهر للمُحَدِّثِ من تحقق شروط الصحة أو الحسن أو عدم تحققها، وليس المراد أنه صحيح أو حسن أو ضعيف في الواقع ونفس الأمر، إذ لا يعلم ذلك يقيناً إِلاَّ علامُ الغيوب، وأنه يجوز - عقلاً - أنْ يكذب الصادق ويصدق الكذوب، وهذا التجويز العقلي دعاهم إليه التعمُق في البحث والتأنِّي في النظر والثبت في الحُكْم وبلوغ الغاية في النَّصَفَةِ.
______
(1) " فتح الباري ": 13/ 211.
تعليقات
إرسال تعليق