الفصل الرابع : شبهات وجوابها (٣) 3 - الجواب عن الشبهة الثالثة

الفصل الرابع : شبهات وجوابها (٣)

3 - الجواب عن الشبهة الثالثة


وأما الشبهة الثالثة وهي أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبيا !


فالجواب : 

إننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه و سلم في هذا المسجد ولكننا نقول : إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبيا لا حجة فيه من وجهين


الأول : أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه ، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه ، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به .


قال الطبراني في « معجمه الكبير » ( 3 / 204 / 2 ) : " حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان نا أبو همام الدلال نا إبراهيم بن طمهان عن منصور عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : « في مسجد الخيف قبر سبعين نبياً »

وأورده الهيثمي " المجمع " ( 3 / 298 ) بلفظ :

« ... قبر سبعون نبيا » ، وقال : " رواه البزار ورجاله ثقات " .


وهذا قصور منه في التخريج فقد أخرجه الطبراني أيضا كما رأيت .


قلت : ورجال الطبراني ثقات أيضا غير عبدان بن أحمد وهو الأهوازي كما ذكر الطبراني في « المعجم الصغير » ( ص 136 ) ولم أجد له ترجمة وهو غير عبدان بن محمد المروزي وهو من شيوخ الطبراني أيضا في « الصغير » ( ص 136 ) وغيره وهو ثقة حافظ له ترجمة في« تاريخ بغداد » ( 11 / 135 ) و « تذكرة الحفاظ » ( 2 / 230 ) وغيرها .


لكن في رجال هذا الإسناد من يروي الغرائب مثل عيسى بن شاذان ، قال فيه ابن حبان في « الثقات » : " يغرب " .


وإبراهيم بن طهمان ، قال فيه ابن عمار الموصلي : " ضعيف الحديث مضطرب الحديث " .


وهذا على إطلاقه وإن كان مردوداً على ابن عمار فهو يدل على أن في حديث ابن طهمان شيئاً ، ويؤيده قول ابن حبان في « ثقات أتباع التابعين » ( 2 / 10 ) :

" أمره مشتبه له مدخل في الثقات ، ومدخل في الضعفاء وقد روى أحاديث مستقيمة تشبه أحاديث الأثبات ، وقد تفرد عن الثقات بأشياء معضلان سنذكره إن شاء الله في كتاب الفصل بين النقلة إن قضى الله سبحانه ذلك وكذلك كل شيءٍ توقفنا في أمره ممن له مدخل في الثقات " .


ولذلك قال فيه الحافظ ابن حجر في « التقريب » : " ثقة يغرب " وشيخه منصور - وهو ابن المعتمر - ثقة ، وقد روى له ابن طهمان حديثا آخر في مشيخته ( 244 / 2 )(1).



فالحديث من غرائبه أو من غرائب ابن شاذان (2)


وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرف على أحدهما فقال : " قُبر " بدل " صلى " ، لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث فقد أخرج الطبراني في « الكبير » ( 3 / 1551 ) بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا :

« صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا "صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا" . . . » الحديث .


وكذلك رواه الطبراني في « الأوسط » ( 1 / 119 / 2 - زوائده ) (3) وعنه المقدسي في « المختارة » ( 249 / 2 ) والمخلص في « الثالث من السادس من المخلصيات » ( 70 / 1 ) وأبو محمد بن شيبان العدل في « الفوائد » ( 2 / 222 / 2 ) وقال المنذري ( 2 / 116 ) :

" رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن "

ولا شك في حسن الحديث عندي ، فقد وجدت له طريقاً أخرى عن ابن عباس رواه الأزرقي في « أخبار مكة » ( ص 35 ) عنه موقوفا عليه وإسناده يصلح للاستشهاد به ، كما بينته في كتابي الكبير « حجة الوداع » ( ولم ينجز بعد ) .

ثم رواه الأزرقي ( ص 38 ) من طريق محمد بن إسحاق قال : حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس به موقوفا . فهذا هو المعروف في هذا الحديث والله أعلم .


وجملة القول أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو :

الثاني : أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف ، وقد عقد الأزرقي في تاريخ مكة ( 406 - 410 ) عدة فصول في وصف مسجد الخيف ، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزة ، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنى أحكامها على الظاهر ، فإذا ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة ، فلا محظور في الصلاة فيه البتة ، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبراً ! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة .

__________


(1) مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق.

(2) ثم رأيته قد توبع فقد وقفت على إسناد البزار للحديث في « زوائده » ( ص 123 مصورة المكتب الإسلامي ) فإذا هو يقول : حدثنا إبراهيم عن المستمر العروقي ثنا محمد ثنا إبراهيم بن طهمان به 

وقال البزار " تفرد به إبراهيم عن منصور ولا نعلمه عن ابن عمر بأحسن من هذا إسنادا " . 

وهذه متابعة لا بأس بها العروقي – بالقاف - صدوق يغرب كما في « التقريب » . فالعهدة في الحديث على ابن طهمان ، وجرى الهيثمي على ظاهر إسناده فقال في « زوائد البزار » : " قلت : هو إسناد صحيح " . ولعل قوله السابق " ورجاله ثقات " أدق لما ذكرنا من الغرابة ذلك لأن مثل هذه الكلمة لا تقتضي الصحة كما لا يخفى على من مارس هذه الصناعة ، لأن عدالة الرواة وثقتهم شرط واحد من شروط الصحة الكثيرة ، بل إن العالم لا يلجأ إلى هذه الكلمة معرضاً عن التصريح بالصحة ، إلا لأنه يعلم أن في السند مع ثقة رجاله علة تمنع من القول بصحته ، أو على الأقل لم يعلم تحقق الشروط الأخرى فيه فلذلك لم يصرح بصحته ، وهذه مسألة مهمة طالما غفل عنها المبتدئون في هذا العلم الشريف وغيرهم ولذلك نبهت عليها في مقدمة كتابي « تمام المنة على فقه السنة للسيد سابق »

هذا ولو كنت محتجاً بما ليس صواباً عندي لاحتججت على تصحيح بعض المعاصرين المقلدين للحديث بأن السيوطي ضعفه بالرمز إليه بالضعف في « الجامع الصغير » وقع ذلك في النسخة المطبوعة بمطبعة بولاق بمصر ، وفي النسخة التي عليها شرح المناوي وفي نسخة خطية في المكتبة الظاهرية ( 2329 عام ) وغيرها ولكن لا أثق برموز ( الجامع الصغير ) لأسباب ذكرتها في المقدمة المذكورة آنفا ثم في مقدمته كتابي " صحيح الجامع الغير وزياداته " و " وضعيف الجامع الصغير وزياداته " ، ولكن على الرغم من ذلك ، فالتضعيف وارد عليهم لأنهم لا تحقيق عندهم بل هم مقلدون في كل شيء باعترافهم فغالب الظن أنهم يعتدون بتلك الرموز وعليه فالتضعيف المذكور حجة عليهم إن أنصفوا .

(3) مخطوط ناقص الأول والآخر محفوظ في المكتبة الظاهرية ومنه نسخة كاملة في مكتبة الحرم المكي .



من ( ص ٩٣ : ٩٩ ) طبعة المعارف بالرياض 

____________________

تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد

بقلم محمد ناصر الدين الألباني (رحمه الله تعالى)

الجمع بين 

نسخة المكتب الإسلامي : الطبعة الرابعة 

و

نسخة مكتبة المعارف بالرياض: الطبعة الأولى 








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة