الفصل الرابع : شبهات وجوابها (٤) 4 - الجواب عن الشبهة الرابعة

الفصل الرابع : شبهات وجوابها (٤)

4 - الجواب عن الشبهة الرابعة

وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه 


فالجواب :

لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة(1) ، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه ، ومن زعم خلاف ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم ، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به .


فإن قيل : لا شك فيما ذكرت ، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك ، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر ؟


فالجواب : كلا ثم كلا وهاك البيان من وجوه :


الأول : أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام ،  


ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب الستة ، ومسند أحمد ، ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها من الدواوين المعروفة ، وذلك من أعظم علامات كون الحديث ضعيفا بل موضوعا عند بعض المحققين (2).


وغاية ما وري في ذلك من آثار معضلات ، بأسانيد واهيات موقوفات أخرجها الأزرقي في « أخبار مكة » ( ص 39 و 219 و 220 ) فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات(3) 


ونحو ذلك ما أورد السيوطي في " الجامع " من رواية الحاكم في " الكنى " عن عائشة مرفوعا بلفظ :

« إن قبر إسماعيل في الحجر » .

 

الوجه الثاني : أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة ، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى ، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض ، لظهور الفرق بين الصورتين وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله تعالى فقال في « مرقاة المفاتيح » ( 1 / 456 ) بعد أن حكى قول المفسر الذي أشرت إليه في التعليق :

" وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب ، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا " . 


قال القاري :

" وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة ، فلا يصلح الاستدلال" .


وهذا جواب عالم نحرير ، وفقيه خريت ، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفا ، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة ، وأن ما في بطن الأرض من القبور فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر ، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى : ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا . أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ . قال الشعبي : « بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم »(4) .


ومنه قول الشاعر :

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب

فأين القبور من عهد عاد ؟


خفف الوطأ ما أظن أديم

الأرض إلا من هذه الأجساد


سر إن استطعت في الهواء رويدا

لا اختيالاً على رفات العباد


ومن البين الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروفاً مكانه فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة ، حتى ولو كانت مزورة ! لا عند القبور المندرسة ، ولو كانت حقيقية ، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين ، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بينا سابقاً ، فلا يجوز التسوية بينهما ، والله المستعان .

_________

(1) وقد خرجت بعض الأحاديث الواردة في ذلك في " إرواء الغليل " ( 971 و 1129 ) .

(2) نقل السيوطي في " التدريب " عن ابن الجوزي " قال :

" ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يباين العقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع . قال : ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجا من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة " .

كذا في « الباعث الحثيث » ( ص 85 من الطبعة الثانية ) .

(3) " انظر إحياء المقبور " ( 47 - 48 )

ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثار الواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته إليه (!) لا للتعظيم له والتوجه نحوه وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز ، فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ولهذا رد المناوي احتجاج المفسر المشار إليه بقوله :

" لكن خبر الشيخين كراهة (!) بناء المساجد على القبور مطلقا والمراد قبور المسلمين خشية أن يعبد فيها المقبور لقرينة خبر : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد "

وقال الصنعاني في « سبل السلام » ( 2 / 214 ) متعقباً عليه أيضاً :

" قوله : ( لا لتعظيم له ) يقال : قصد التبرك به تعظيم له ثم أحاديث النهي مطلقة ، ولا دليل على التعليل بما ذكر والظاهر أن العلة سد للذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان ، الذين يعظمون الجمادات التي لا تنفع ولا تضر ، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية ، ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر "

قلت : وقوله " الملعون فاعله " يشير إلى حديث ابن عباس الذي بينت ضعفه فيما سبق ( ص 33 ) فتنبه .

(4) رواه الدولابي ( 1 / 129 ) عنه ورجاله ثقات.



من ( ص ٩٩ : ١٠٥ ) طبعة المعارف بالرياض 

____________________

تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد

بقلم محمد ناصر الدين الألباني (رحمه الله تعالى)

الجمع بين 

نسخة المكتب الإسلامي : الطبعة الرابعة 

و

نسخة مكتبة المعارف بالرياض: الطبعة الأولى 






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة