الفصل الرابع : شبهات وجوابها 5 - الجواب عن الشبهة الخامسة
5 - الجواب عن الشبهة الخامسة :
أما بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه و سلم ، فشبهة لا تساوي حكايتها ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسود الصفحات في سبيل الجواب عنها وبينا بطلانها والكلام عليها من وجهين :
الأول : رد ثبوت البناء المزعوم من أصله ، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به ، ولم يروه أصحاب « الصحاح » و « السنن » و « المسانيد » وغيرهم وإنما أورده ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير من « الاستيعاب » ( 4 / 21 - 23 ) مرسلا فقال :
" وله قصة في المغازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب . ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة القضية عام الحديبية ، قال :
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم ، فأرسلت قريش في طلبه رجلين ، فقالا لرسول الله صلى الله عليه و سلم :
العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً ، فدفعه النبي صلى الله عليه و سلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيداً يا فلان ! فاستله الآخر ، وقال : أجل والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت ، فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ، وفر الأخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد بعده فقال له النبي صلى الله عليه و سلم حين رآه : « لقد رأى هذا ذعرا » فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول . فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفى الله ذمتك : قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : « ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد » .
فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال : وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير ... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظاً وأكمل سياقه قال : ... وكتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبر مسجداً "
قلت : فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار انه تابعي صغير ، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه وإلا فهي معضلة وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة على أن موضع الشاهد منها وهو قوله : « وبنى على قبره مسجداً » لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري ولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه بل هو من رواية موسى بن عقبة كما صرح به ابن عبد البر لم يجاوزه وابن عقبة لم يسمع أحدا من الصحابة فهذه الزيادة أعني قوله « وبنى على قبره مسجدا » معضلة(1) .
بل هي عندي منكرة لأن القصة رواها البخاري في " صحيحة " ( 5 / 351 - 371 ) وأحمد في " مسنده " ( 4 / 328 - 331 ) موصولة من طريق عبد الرزاق عن معمر قال : أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة وكذلك أوردها ابن إسحاق في " السيرة " عن الزهري مرسلا كما في " مختصر السيرة " لابن هشام ( 3 / 331 - 339 ) ووصله أحمد ( 4 / 323 - 326 ) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة ، وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه ( 3 / 271 - 285 ) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة ، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة ؛ لإعضالها ، وعدم رواية الثقات لها . والله تعالى هو الموفق .
الوجه الثاني : أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة ، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين :
أولا : أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه و سلم اطلع على ذلك وأقره .
ثانيا : أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه و سلم علم بذلك وأقره فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه و سلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم على فرض صحته عند التعارض وهذا بين لا يخفى نسأل الله تعالى أن يحمينا من إتباع الهوى .
________
(1) ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه ساق ( ص 44 ) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر غير أن المؤلف حذف من كلامه " وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر " ووصل رواية عبد الرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبد الرزاق عن الزهري وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد !
ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في « تاريخ ابن عساكر » ( 8 / 334 / 1 ) رواه بإسنادين عن عنه عن ابن شهاب مرسلا ومعضلا بلفظ : « وجعل عند قبره مسجدا » وهذا اللفظ - لو صح - أقل مخالفة لأنه ليس نصاً في أن البناء كان على القبر بل عنده وشتان ما بينهما وليس فيه أيضا أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد فتأمل .
من ( ص ١٠٥ : ١١٠ ) طبعة المعارف بالرياض
____________________
تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد
بقلم محمد ناصر الدين الألباني (رحمه الله تعالى)
الجمع بين
نسخة المكتب الإسلامي : الطبعة الرابعة
و
نسخة مكتبة المعارف بالرياض: الطبعة الأولى
تعليقات
إرسال تعليق