فتوى الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله بخصوص (فتنة التكفير) وتقريظ العلامة عبدالعزيز ابن باز وعلق عليها العلامة ابن عثيمين رحمهما الله تعالي

فتوى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله بخصوص (فتنة التكفير)(1)

 




إنَّ الحمدَ للهِ, نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أَعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعدُ: 

فإن مسألة التكفيرِ عمومًا ـ لا للحكام فقط, بل وللمحكومين أيضاً ـ هي فتنة عظيمة قديمة، تبنتها فرقةٌ من الفرقِ الإسلامية القديمة، وهي المعروفةُ بـ((الخوارج))(2).

ومع الأسف الشديد فإن (البعض) ـ من الدعاةِ أو المتحمسين ـ قد يقع في الخروج عن الكتاب والسنة! ولكن: باسم الكتاب والسنة !! والسبب في هذا يعود إلى أمرين اثنين: 

أحدهما هو: ضحالة العلم.
والأمر الآخر ـ وهو مهم جداً ـ: أنهم لم يتفقهوا بالقواعد الشرعية، والتي هي أساسُ الدعوةِ الإسلامية الصحيحةِ التي يُعد كلُ من خرج عنها من تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة ـ التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديث؛ بل والتي ذكرها ربنا عز وجل, بيِّن أن من خرج عنها يكون قد شاقَّ الله ورسوله، وذلك في قوله عز وجل:﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115].

فإن الله ـ لأمر واضحٍ عند أهل العلم ـ لم يقتصر على قوله: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ... نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى). وإنما أضاف إلى مشاقة الرسول اتباع غير سبيل المؤمنين، فقال:﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115].

فاتِّباعُ سبيل المؤمنين أو عدمُ اتباع سبيلهم أمر هام جداً إيجاباً وسلباً، فمن اتبع سبيل المؤمنين فهو النّاجي عند رب العالمين، ومن خالف سبيل المؤمنين فحسبه جهنم وبئس المصير.

من هنا ضلت طوائفُ كثيرةٌ جداً ـ قديماً وحديثاً ـ، لأنهم لم يكتفوا بعدم التزام سبيل المؤمنين حسب، ولكن: ركبوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم في تفسير الكتاب والسنة، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرةً جداً، خروج بها عما كان عليه سلفنا الصالح ـ رضوانُ الله تعالى عليهم جميعًا ـ. 
وهذه الفقرة من الآية الكريمة ـ ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ـ أكدها عليه الصلاة والسلام تأكيداً بالغاً في غير ما حديثٍ نبويٍ صحيح.

وهذه الأحاديثُ ـ التي سأوردُ بعضًا منها ـ ليست مجهولة عند عامة المسلمين ـ فضلاً عن خاصتهم ـ لكن المجهول فيها هو أنها تدل على ضرورة التزام سبيل المؤمنين في فهم الكتاب والسنة, ووجوب ذلك, وتأكيده. 

وهذه النقطةُ يسهو عنها ـ ويغفلُ عن ضرورتها ولزومها ـ كثيرٌ من الخاصةِ, فضلاً عن غيرهم ممن عُرفوا حديثًا بـ ((جماعة التكفير)) ! أو بعض أنواع الجماعات التي تنسبُ نفسها للجهاد, وهي في حقيقتها من فلول التكفير فهؤلاء ـ وأولئك ـ قد يكونون في دواخل أنفسهم صالحين ومخلصين ولكن هذا وحده غير كاف ليكون صاحبه عند الله عز وجل من الناجين المفلحين إذ لابد للمسلم أن يجمع بين أمرين اثنين:

صدق الإخلاصِ في النية لله عز وجل.

وحسن الاتباع لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

فلا يكفي ـ إذًا ـ أن يكون المسلمُ مخلصًا وجادًا فيما هو في صدده من العمل بالكتاب والسنة والدعوة إليهما بل لا بد ـ بالإضافة إلى ذلك ـ من أن يكون منهجه منهجًا سويًا سليمًا, وصحيحًا مستقيمًا؛ ولا يتم ذلك على وجهه إلا باتباع ما كان عليه سلف الأمة الصالحون رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
فمن الأحاديث المعروفة الثابتة التي تؤصل ما ذكرت ـ وقد أشرت إليها آنفا ـ حديث الفرقِ الثلاثِ والسبعين, ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((افترقتِ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فرقة, وافترقتِ النصارى على اثنتينِ وسبعينَ فرقة, وستفترقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقة كلُّها في النارِ إِلا واحدة)), قالوا: من هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: ((الجماعة)), وفي روايةٍ: ((ما أَنا عليه وأَصحابي)).

فنجدُ أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي تمامًا مع الآية السابقة ـ ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ـ فأولُ ما يدخلُ في عموم الآية هم أصحابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: ((ما أَنا عليه...)) ـ مع أنَّ ذلك قد يكون كافيًا في الواقع للمسلم الذي يفهمُ حقًا الكتاب والسنة ـ ولكنه عليه الصلاة والسلام يطبق تطبيقًا عمليًا قوله سبحانه وتعالى في حقه صلى الله عليه وسلم أنه: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128].

فمن تمام رأفته وكمال رحمته بأصحابه وأتباعه أن أوضح لهم صلوات الله وسلامه عليه أن علامة الفرقة الناجية: أن يكون أبناؤُها وأصحابها على ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام, وعلى ما كان عليه أصحابه من بعده.

وعليه فلا يجوز أن يقتصر المسلمون عامة ـ والدعاة خاصة ـ في فهم الكتاب والسنة على الوسائل المعروفة للفهم, كمعرفة اللغة العربية, والناسخ والمنسوخ, ... وغير ذلك, بل لا بد من أن يرجع قبل ذلك كله إلى ما كان عليه أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم ـ كما تبين من آثارهم ومن سيرتهم ـ كانوا أخلص لله عز وجل في العبادة, وأفقه منا في الكتاب والسنة...

إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي تخلقوا بها, وتأدبوا بآدابها.
ويشبه هذا الحديث تمامًا ـ من حيثُ ثمرتهُ وفائدتهُ ـ حديث الخلفاء الراشدين المرويُّ في ((السنن)) من حديث العرباضِ بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: وعظنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلتْ منها القلوبُ, وذرفتْ منها العيونُ, فقلنا: كأنها موعظةُ مودعٍ, فأوصنا يا رسولَ اللهِ قال: ((أُوصيكم بالسمعِ والطاعةِ وإن وَلِيَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ, وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا, فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين من بعدي, عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ... )) وذكرَ الحديثَ.

والشاهدُ من هذا الحديث هو معنى جوابه على السؤال في الحديث السابق, إذ حضَّ صلى الله عليه وسلم أمته ـ في أشخاص أصحابه ـ أن يتمسكوا بسنته, ثم لم يقتصر على ذلك؛ بل قال: ((وسُنّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بعدي)).

فلا بد لنا ـ والحالةُ هذهِ ـ من أن نُدندنَ دائمًا وأبدًا حول هذا الأصل الأصيل إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا, وأن نفهم عبادتنا, وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا.

ولا محيد عن العودِ إلى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه القضايا الضرورية للمسلم, حتى يتحقق فيه ـ صدقًا ـ أنه من الفرقة الناجية.
ومن هنا ضلت طوائف قديمةٌ وحديثةٌ؛ حين لم يتنبهوا إلى مدلول الآية السابقة, وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين, وكذا حديث افتراق الأمة, فكان أمرًا طبيعيًا جدًا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله, وسنة رسول صلى الله عليه وسلم, ومنهج السلف الصالح.

ومن هؤلاء المنحرفين: الخوارجُ ـ قدماءَ ومُحْدَثين ـ فأن أصل فتنة التكفير في هذا الزمان ـ بل منذ أزمان ـ هو آية يدندنون دائمًا حولها ألا وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[المائدة:44], فيأخذونها من غير فهوم عميقة ويوردونها بلا معرفة دقيقة.

ونحنُ نعلم أن هذه الآية الكريمة قد تكررت, وجاءت خاتمتها بألفاظٍ ثلاثةٍ, وهي: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[المائدة:45]، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[المائدة: 47], فمن تمام جهلِ الذين يحتجون بهذه الآية باللفظ الأول منها فقط ـ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ـ أنهم لم يُلمُّوا على الأقلِّ ببعض النصوص الشرعية ـ قُرآنًا أم سُنةً ـ التي جاء فيها ذكرُ لفظة (الكفر), فأخذوها ـ بغير نظرٍ ـ على أنها تعني الخروج من الدين ! وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر, وبين أولئك المشركينَ من اليهودِ والنصارى وأصحابِ المللِ الأُخرى الخارجةِ عن ملة الإسلام !

بينما لفظةُ (الكفر) في لغة الكتابِ والسنةِ لا تعني ـ دائمًا ـ هذا الذي يدندنون حوله, ويُسلطونَ هذا الفهمَ الخاطئَ المغلوط عليه!!

فشأنُ لفظِ: {الكافرون} ـ من حيث إنه لا يدل على معنى واحد ـ هو ذاتُهُ شأنُ اللفظين الآخرين: {الظالمون} و{الفاسقون}؛ فكما أن من وُصفَ بأنّه ظالمٌ أو فاسقٌ لا يلزم بالضرورة ارتدادهُ عن دينه, فكذلك من وُصِفَ بأنَّه كافرٌ, سواء بسواءِ.

وهذا التنوعُ في معنى اللفظِ الواحد هو الذي تدل عليه اللغةُ, ثم الشرعُ الذي جاء بلغةِ العرب ـ لغة القرآن الكريم ـ.

فمن أجلِ ذلك كان الواجبُ على كل من يتصدى لإصدارِ الأحكام على المسلمين ـ سواء كانوا حُكامًا أم محكومين ـ أن يكون على علمٍ واسعٍ بالكتاب والسنة, وعلى ضوء منهجِ السلفِ الصالحِ.

والكتاب والسنة لا يمكن فهمُهما ـ وكذلك ما تفرع عنهما ـ ألا بطريق معرفة اللغة العربية وآدابها معرفةً خاصةً دقيقةً.

فإن كان لدى طالبِ العلمِ نقصٌ في معرفة اللغةِ العربيةِ: فإن مما يساعدُهُ في استدراك ذلك النقصِ الرُّجوعَ إلى فهمِ مَن قَبلَه من الأئمةِ والعلماءِ, وبخاصةٍ أهل القرون الثلاثةِ المشهودَ لهم بالخيريةِ. 
ولنرجع إلى الآية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾, فما المراد بالكفر فيها ؟ هل هو الخروجُ عن الملةِ ؟ أو أنَّه غيرُ ذلك ؟

فأقولُ: لا بد من الدقةِ في فهم هذه الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العمليَّ, وهو الخروجُ بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام.

ويُساعدنا في هذا الفهم حَبرُ الأُمةِ وترجُمانُ القرآنِ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, الذي أجمعَ المسلمون جميعًا ـ إلا من كان من تلك الفرقِ الضالةِ! ـ على أنه إمامٌ فريدٌ في التفسيرِ.

فكأنه طرق سمعه يومئذٍ ما نسمعهُ اليوم تمامًا من أن هناك أُناسًا يفهمون هذه الآية فهمًا سطحيًا, من غير تفصيلٍ, فقال رضيَ اللهُ عنه: ((ليس الكفرَ الذي تذهبونَ إليه)), و((إنه ليسَ كفرًا ينقلُ عن الملةِ)), و: ((هو كفرٌ دونَ كفرٍ)), ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه, ثم كان من عواقبِ ذلك أنهم سفكوا دماءَ المؤمنين, وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين, فقال: ليس الأمرُ كما قالوا ! أو كما ظنوا ! وإنما هو كفرٌ دونَ كفرٍ(3).

هذا الجواب المختصر الواضحُ من ترجمانِ القرآنِ في تفسير هذه الآية هو الحكمُ الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي أشرتُ إليها قبلُ(4).

ثم إن كلمة (الكفر) ذكرت في كثيرٍ من النصوص القرآنية والحديثية, ولا يمكن أن تحمل ـ فيها جميعًا ـ على أنها تساوي الخروج من الملة (5) !! من ذلك ـ مثلاً ـ الحديثُ المعروفُ في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المسلمِ فسوقٌ, وقتالُه كفرٌ))؛ فالكفر هنا هو المعصيةُ, التي هي الخروجُ عن الطاعة, ولكنَّ الرسولَ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وهو أفصحُ الناس بيانًا ـ بالغَ في الزَّجر قائلاً: ((... وقتالُه كفرٌ)). 

ومن ناحيةٍ أخرى؛ هل يمكن لنا أن نحمل الفقرةَ الأولى من هذا الحديث ـ ((سباب المسلمِ فسوقٌ)) ـ على معنى الفسقِ المذكورِ في اللفظ الثالثِ ضمن الآية السابقةِ: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ؟!

والجوابُ: أن هذا قد يكونُ فسقًا مرادفًا للكفرِ الذي هو بمعنى الخروج عن الملة, وقد يكون الفسقُ مرادفًا للكفرِ الذي لا يعني الخروج عن الملة, وإنما يعني ما قاله ترجمانُ القرآنِ: إنه كفرٌ دونَ كفرٍ. 
وهذا الحديثُ يؤكّد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى؛ وذلك لأن الله عز وجل قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[الحجرات:9]؛ إذ قد ذكر ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغيةَ التي تقاتلُ الفرقة المحقة المؤمنة, ومع ذلك فلم يحكم على الباغية بالكفر, مع أن الحديث يقولُ: ((... وقتالُه كفرٌ)) !

إذًا؛ فقتاله كفرٌ دون كفرٍ, كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة تمامًا.

فقتال المسلم للمسلمِ بغيٌ واعتداءٌ, وفسقٌ وكفرٌ, ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرًا عمليًا, وقد يكون كفرًا اعتقاديًا.

من هنا جاء هذا التفصيلُ الدقيقُ الذي تولى بيانه وشرْحه الإمامُ ـ بحقٍّ ـ شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه اللهُ, وتولى ذلك من بعده تلميذُه البارُّ ابن قيم الجوزية, إذ لهما الفضلُ في التنبيه والدندنةِ على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم الذي رفع رايته ترجمانُ القرآنِ بتلك الكلمة الجامعةِ الموجزةِ, فابنُ تيمية يرحمه الله وتلميذه وصاحبهُ ابن قيم الجوزية: يدندنانِ دائمًا حول ضرورةِ التفريقِ بين الكفرِ الاعتقادي والكفر العملي, وإلا وقع المسلمُ من حيثُ لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديمًا, وبعض أذنابهم حديثًا.

وخلاصةُ القولِ: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ((... وقتالُه كفرٌ)), لا يعني ـ مطلقًا ـ الخروج عن الملة, والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ جدًا فهي ـ جميعًا ـ حجةٌ دامغةٌ على أولئك الذين يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقةِ, ويلتزمون تفسيرها بالكفر الاعتقادي.

فحسبنا الآن هذا الحديث, لأنه دليلٌ قاطعٌ على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي, وليس الكفر الاعتقاديَّ! 
فإذا عدنا إلى (جماعة التكفير) ـ أو من تفرع عنهم! ـ وإطلاقهم على الحكام ـ وعلى من يعيشون تحت رايتهم, وينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم ـ الكُفر والردة!! فإن ذلك منهم مبنيٌ على وجهةِ نظرهم الفاسدة؛ القائمة على أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك(6)!!

ومن جملة الأمور التي يفيد ذكرها وحكايتها: أنني التقيت بعض أولئك الذين كانوا من جماعة التكفير, ثم هداهم الله عز وجل, فقلت لهم: ها أنتم كفرتم بعض الحكام فما بالكم ـ مثلًا ـ تكفرون أئمة المساجد, وخطباء المساجد, ومؤذني المساجد, وخدمة المساجد؟! وما بالكم تكفرون أساتذة العلم الشرعي في المدارس وغيرها ؟!

قالوا: لأن هؤلاء رضوا بحكم الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله !!

فأقولُ: إذا كان هذا الرِّضا رِضًا قلبيًا بالحكم بغير ما أنزل الله, فحينئذٍ ينقلب الكفر العمليُّ إلى كفرٍ اعتقاديٍّ ! فأيُّ حاكم يحكم بغير ما أنزل اللهُ وهو يرى ويعتقد أن هذا هو الحكم اللائق تبنيه في هذا العصر ! وأنه لا يليق (به) تبنيه للحكم الشرعيِّ المنصوص في الكتاب والسنة ! فلا شك أن هذا الحاكم يكون كفرُه كفرًا اعتقاديًا, وليس كفرًا عمليًا فقط !! ومن رضيَ ارتضاءَه واعتقادَه: فإنَّه يُلحقُ به(7)!!

ثم قلت لهم: فأنتم ـ أولًا ـ لا تستطيعون أن تحكموا على كل حاكم يحكم بالقوانين الغربية الكافرة ـ أو بكثير منها ـ أنه لو سئلَ عن الحكم بغير ما أنزل اللهُ ؟! 

لأجابَ: بأنَّ الحكم بهذه القوانين هو الحقُ والصالحُ في هذا العصر ! وأنه لا يجوز الحكمُ بالإسلامِ!! لأنهم لو قالوا ذلك لصاروا كفارًا ـ حقًا ـ دون شكٍّ ولا ريبٍ !

فإذا انتقلنا إلى المحكومين ـ وفيهم العلماء والصالحون وغيرهم ـ فكيف تحكمون عليهم بالكفر بمجرد أنهم يعيشون تحت حكم يشملهم كما يشملكم أنتم تمامًا ! ولكنكم تعلنون أن هؤلاء كفارٌ مرتدُّون, والحكم بما أنزل الله هو الواجبُ! ثم تقولون معتذرين لأنفسكم: إن مخالفة الحكم الشرعي بمجرد العمل لا يستلزم الحكمَ على هذا العامل بأنه مرتد عن دينه؟!

وهذا عين ما يقوله غيركم, سوى أنكم تزيدون عليهم ـ بغير حق ـ الحكم بالتكفير والردة!!! 

ومن جملة المسائل التي تُوضحُ خطأهم وتكشفُ ضلالهم, أن يقال لهم: متى يُحكمُ على المسلم الذي يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ـ وقد يكون يصلي ـ بأنه ارتدَّ عن دينه؟
أيكفي مرة واحدة ؟ أم أنه يجب أن يعلن أنه مرتدٌ عن الدين؟

إنهم لن يعرفوا جوابًا ! ولن يهتدوا صوابًا !! فنضطر إلى أن نضرب لهم المثل التالي؛ فنقول: قاضٍ يحكم بالشرع؛ هكذا عادته ونظامه, لكنه في حكومة واحدة زلت به القدمُ فحكم بخلاف الشرع, أي: أعطى الحق للظالم وحرمه المظلوم, فهذا ـ قطعًا ـ حكم بغير ما أنزل الله ! فهل تقولون بأنه: كفر كفر ردةٍ ؟

سيقولون: لا؛ لأن هذا صدر منه مرة واحدة !

فنقولُ: إن صدر منه نفسُ الحكم مرةً ثانيةً, أو حكم آخر, وخالف الشرع أيضًا, فهل يكفر؟

ثم نكرر عليهم: ثلاث مرات ! عَشْرَ مرات! متى تقولون: إِنه كفر؟ لن يستطيعوا وضعَ حدٍّ بتعداد أحكامه التي خالف فيها الشرع, ثم لا يكفرونه بها! في حين يستطيعون عكس ذلك تمامًا إذا علمَ منه أنه في الحكم الأول استحسن الحكم بغير ما أنزل الله ـ مستحلاً له ـ واستقبح الحكم الشرعيَّ, فساعتئذٍ يكون الحكم عليه بالردة صحيحًا, ومن المرة الأولى!

وعلى العكس من ذلك: لو رأينا منه عشرات الحكومات في قضايا متعددةٍ خالف فيها الشرع, وإذا سألناه: لماذا حكمت بغير ما أنزل الله عز وجل؟ فرد قائلاً: خفتُ وخشيتُ على نفسي أو: ارتشيتُ مثلاً, فهذا أسوأُ من الأول بكثير, ومع ذلك فإننا لا نستطيعُ أن نقول بكفره حتى يعرب عما في قلبه: بأنه لا يرى الحكم بما أنزل الله عز وجل, فحينئذٍ فقط نستطيعُ أن نقول: إنه كافرٌ كفرَ ردةٍ.

وخلاصة الكلام: لا بُد من معرفةِ أن الكفر ـ كالفسق والظلم ـ ينقسم إلى قسمين:

ـ كفرٌ وفسقٌ وظلمٌ يخرج من الملة, وكل ذلك يعود إلى الاستحلال القلبي 

ـ وآخرُ لا يخرج من الملة؛ يعود إلى الاستحلال العمليِّ.

فكل المعاصي ـ وبخاصة ما فشا في هذا الزمان, من استحلالٍ عمليٍّ للربا, والزنى, وشرب الخمر, وغيرها ـ هي من الكفر العملي, فلا يجوز أن نكفر العصاةِ المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها, واستحلالهم إياها عمليًا! إلا إذا ظهر لنا منهم ـ يقينًا ـ ما يكشفُ لنا عما في قرارةِ نفوسهم أنهم لا يحرِّمون ما حرم اللهُ ورسولهُ اعتقادًا, فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا عليهم حينئذٍ بأنهم كفروا كفر ردةٍ.

أما إذا لم نعلم ذلك, فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم, لأننا نخشى أن نقع تحت وعيدِ قوله عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إذا قالَ الرَّجلُ لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أَحدُهما)).

والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرةٌ جدًا, أذكر منها حديثًا ذا دلالةٍ كبيرةٍ, وهو في قصة ذلك الصحابي الذي قاتلَ أحد المشركينَ, فلما رأى هذا المشرك أنه صارَ تحتَ ضربةِ سيفِ المسلم الصحابيِّ قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله فما بالاها الصحابيُّ فقتلَه فلما بلغ خبرُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ أنكر عليه ذلك أشدَّ الإنكارِ, فاعتذرَ الصحابيُّ بأن المشركَ ما قالها إلا خوفًا من القتل لكنَّ جوابهُ صلى الله عليه وسلم كانَ: ((هلّا شَقَقْتَ عن قلبِه؟!)). 

إذًا؛ الكفرُ الاعتقاديُّ ليس له علاقةٌ أساسيةٌ بمجرد العمل, إنما علاقته الكبرى بالقلب(8).

ونحن لا نستطيع أن نعلم ما في قلب الفاسق والفاجر, والسارق, والزاني, والمرابي .. ومن شابههم, إلا إذا عبر عما في قلبه بلسانه, أمَّا عمله فينبئُ أنه خالفَ الشرعَ مخالفةً عمليةً, فنحن نقول: إنك خالفت! وإنك فسقت! وإنك فجرت! لكن لا نقول: إنك كفرت, وارتدت عن دينك, حتى يظهر منه شيءٌ يكون لنا عذرًا عند الله عز وجل في الحكم بردَّتهِ, ثم يأتي الحكم المعروف في الإسلام عليه؛ ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه)).

ولقد قلتُ ـ وما أزال أقولُ ـ لهؤلاء الذين يدندنون حول تكفير حكام المسلمين:
هَبُوا أن هؤلاء الحكّام كفّارٌ كفر ردة ! وهبُوا ـ أيضًا ـ أن هناك حاكمًا أعلى على هؤلاء فالواجب ـ والحالة هذه ـ أن يطبق هذا الحاكم الأعلى فيهم الحدَّ.

ولكن؛ الآن: ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلمنا ـ جدلاً ـ أن هؤلاء الحكام كُفَّارٌ كفرَ ردةٍ ؟ ماذا يمكن أن تصنعوا وتفعلوا ؟

إذ قالوا: ولاءً وبراءً, فنقول: الولاءُ والبراءُ مرتبطان بالموالاة والمعاداة ـ قلبيةً وعمليةً ـ وعلى حسب الاستطاعة, فلا يُشترطُ لوجودهما إعلان التكفير وإشهار الردة.

بل إن الولاء والبراء قد يكونان في مبتدعٍ, أو عاصٍ, أو ظالمٍ!! 

ثم أقول لهؤلاء: ها هُم هؤلاء الكفار قد احتلوا من بلاد الإسلام مواقع عدةً! ـ ونحن مع الأسف ابتلينا باحتلال اليهودِ لفلسطين ـ, فما الذي نستطيع نحن وأنتم فعله مع هؤلاء!!؟

حتى تقفوا أنتم ـ وحدَكم ـ ضد أولئك الحكام الذين تظنون ـ وتدعون ـ أنهم من الكفار(9) ؟

هلا تركتم هذه الناحية جانبًا, وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقومُ قائمةُ الحكومةِ المسلمةِ, وذلك باتِّباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ربى أصحابه عليها, ونشّأهم على نظامها وأساسها.

نذكرُ هذا مرارًا, ونؤكده تكرارًا: لا بد لكلِّ جماعةٍ مسلمة من العمل بحقٍّ لإعادة حُكم الإسلام, ليس فقط على أرض الإسلام, بل على الأرض كلِّها, وذلك تحقيقًا لقوله تبارك وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[الصف:9]؛ وقد جاء في بعض بشائر الأحاديث النبوية أن هذه الآية ستتحقق فيما بعد.

فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآني والوعد الإلهي فلا بد من سبيل بينٍ, وطريق واضحٍ, فهل يكون ذلك الطريقُ بإعلان ثورةٍ على هؤلاء الحكام الذين يظن (هؤلاء) أن كفرهم كفرُ ردَّةٍ ؟! ثم مع ظنهم هذا ـ وهو ظنٌ غالطٌ خاطئٌ ـ لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا(9)!!

إذًا؛ ما هو المنهجُ ؟ وما هو الطريقُ ؟
لا شك أن الطريق الصحيحَ الأمثلَ هو ما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدندنُ حولَه, ويُذكّر أصحابه به في كلِّ خُطبةٍ: ((وخير الهدي هَدْيُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم)).

فعلى المسلمين كافة ـ وبخاصة منهم من يهتمُّ بإعادة الحكم الإسلاميِّ ـ أن يبدؤوا من حيثُ بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما نوجزه ـ نحن ـ بكلمتين خفيفتين: (التصفية والتربية)؛ ذلك لأننا نعلم حقائق ثابتةً وراسخةً يغفلُ عنها ـ أو يتغافلُ عنها ـ أولئك الغلاةُ الذين ليسَ لهم إلا إعلانُ تكفير الحكامِ ! ثم لا شيء !! وسيظلون يعلنون تكفير الحكام, ثم لا يصدرُ منهم ـ أو عنهم ـ إلا الفتنُ والمحنُ !!

والواقع في هذه السنوات الأخيرةِ على أيدي (هؤلاء) بدءًا من فتنة الحرم المكي, إلى فتنة مصر, وقتل الساداتِ, وأخيرًا في سوريَّة, ثم الآن في مصر, والجزائر, ... منظور لكلِّ أحدٍ: هدرُ دماءٍ من المسلمين الأبرياء بسبب هذه الفتن والبلايا, وحصول كثير من المحن والرَّزايا.

كل هذا بسبب مخالفة (هؤلاء) لكثيرٍ من نصوص الكتاب والسنة, وأهمها قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21].

إذا أردنا أن نقيم حكم الله في الأرض ـ حقًا لا ادعاءً ـ هل نبدأ بتكفير الحكام ونحن لا نستطيع مواجهتهم, فضلاً عن أن نقاتلهم ؟ أم نبدأُ ـ وجوبًا ـ بما بدأ به الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ ؟

لاشك أن الجواب: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...﴾ ؟

ولكن, بماذا بدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟
من المتيقَّن عند كل من اشتم رائحةَ العلم أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبل الحق, ثم استجاب له من استجاب من أفراد الصَّحابة ـ كما هو معروف في السيرة النبوية ـ ثم وقع بعد ذلك التعذيبُ والشدةُ التي أصابت هؤلاءِ المسلمين في مكة, ثم جاء الأمرُ بالهجرة الأولى والثانية...
حتى وطَّد اللهُ عز وجل الإسلام في المدينة المنورة, وبدأت هناك المناوشات والمواجهات, وبدأ القتال بين المسلمين وبين الكفار من جهة, ثم اليهود من جهة أخرى... هكذا.

إذًا؛ لا بدَّ أن نبدأ نحن بتعليم الناسِ الإسلام الحق, كما بدأ الرسولُ عليه الصلاة والسلام, لكنْ, لا يجوز لنا (الآن) أن نقتصر على مجرد التعليم فقط, فلقد دخل في الإسلام ما ليس منه, وما لا يمت إليه بصلة, من البدع والمحدثات مما كان سببًا في تهدم الصرح الإسلامي الشامخ, فلذلك كان الواجب على الدعاةِ أن يبدؤوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه, هذا هو الأصلُ الأول ـ (التصفية) ـ.

وأما الأصل الثاني ـ (التربية) ـ: فهو أن يقترن مع تلك التصفية تربيةُ الشبابِ المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى(10).

ونحنُ إذا درسنا واقع الجماعاتِ الإسلاميةِ القائمة منذ نحو قرابةِ قرنٍ من الزَّمان, وأفكارها, وممارساتها, لوجدنا الكثير منهم لم يستفيدوا ـ أو يُفيدوا ـ شيئًا يُذكرُ! برغم صياحِهم, وضجيجهم: بأنهم يريدونها حكومةً إسلاميةً !! مما سبب سفك دماء أبرياءَ كثيرين بهذه الحجة الواهية !! دون أن يحققوا من ذلك شيئًا, فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة, والأعمال المنافية للكتاب والسنة, فضلاً عن تكرارهم تلك المحاولات الفاشلةَ المخالفةَ للشرعِ.

وختاما أقولُ: هناك كلمةٌ لأحد الدعاة ـ كنت أتمنى من أتباعهِ أن يلتزموها وأن يحقِّقوها ـ وهي: (أَقيموا دولةَ الإسلامِ في قلوبِكم تَقُم لكم على أَرضِكم)(11)؛ لأن المسلم إذا صحح عقيدته بناءً على الكتاب والسنة فلا شك أنه بذلك ستصلح عبادته, وستصلح أخلاقه, وسيصلُحُ سلوكه... الخ؛ لكن هذه الكلمة الطيبةَ ـ مع الأسف ـ لم يعمل بها هؤلاء الناسُ, فظلوا يصيحون مطالبين بإقامة الدولة المسلمة... لكن: دون جدوى ! 

ولقد صدق فيهم ـ والله ـ قولُ ذلك الشاعر: 
تَرْجو النجاة ولم تسلُك مسالكَها     إِنَّ السفينةَ لا تجـري على اليَبَسِ

... لعلَّ فيما ذكرتُ مقنعًا لكلِّ مُنصفٍ, ومنتهىً لكلِّ مُتعسِّفٍ. 
واللهُ المُستعانُ.



نصُّ تقريظ(12) 
سماحة العلَّامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله 
لكلام شيخنا الألباني 

 الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:

فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم, الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصرالدين الألباني وفقه الله، المنشور في صحيفة (المسلمون)، الذي أجاب به فضيلته من سأله عن: ((تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل)). 

فألفيتها كلمة قيمة, أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين وأوضح وفقه الله أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يُكَفّرَ من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من سلف الأمة.
ولاشك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائد:44]، و{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}[المائد:45], و:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائد:46]، هو الصواب.

وقد أوضح وفقه الله أن الكفر كفران أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان أكبر وأصغر. فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفرًا أكبر، وظلم ظلمًا أكبر، وفسق فسقًا أكبر. ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرًا أصغر وظلمه ظلمًا أصغر وهكذا فسقه. لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((سِبابُ المسلمِ فسوقٌ, وقتالُه كفرٌ))(13) أراد بهذا صلى الله عليه وسلم: الفسق الأصغر والكفر الأصغر. وأطلق العبارة تنفيرًا من هذا العمل المنكر. 

وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت))(14) أخرجه مسلم في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))(15) 

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. 
فالواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم التثبت في الأمور، والحكم فيها على ضوء الكتاب والسنة، وطريق سلف الأمة. والحذر من السبيل الوخيم الذي سلكه الكثير من الناس لإطلاق الأحكام وعدم التفصيل. 

وعلى أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله سبحانه بالتفصيل وإيضاح الإسلام للناس بأدلته من الكتاب والسنة، وترغيبهم في الاستقامة عليه والتواصي والنصح في ذلك, مع الترهيب من كل ما يخالف أحكام الإسلام. وبذلك يكونون قد سلكوا مسلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلك خلفائه الراشدين وصحابته المرضيين في إيضاح سبيل الحق، والإرشاد إليه، والتحذير مما يخالفه عملًا بقول الله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: 33]. وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108]. وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))(16) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا))(17) أخرجه مسلم في صحيحه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى اليهود في خيبر: ((ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا, خيرٌ لك من حمر النعم))(18) متفق على صحته.

وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة, يدعو الناس إلى توحيد الله، والدخول في الإسلام بالنصح والحكمة والصبر والأسلوب الحسن، حتى هدى الله على يديه وعلى يد أصحابه من سبقت له السعادة. ثم هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، واستمر في دعوته إلى الله سبحانه، هو وأصحابه رضي الله عنهم بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر والجدال بالتي هي أحسن، حتى شرع الله له الجهاد بالسيف للكفار، فقام بذلك عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه رضي الله عنهم أكمل قيام، فأيدهم الله ونصرهم وجعل لهم العاقبة الحميدة.

 هكذا يكون النصر وحسن العاقبة لمن تبعهم بإحسان, وسار على نهجهم إلى يوم القيامة. والله المسؤول أن يجعلنا وسائر إخواننا في الله من أتباعهم بإحسان، وأن يرزقنا وجميع إخواننا الدعاة إلى الله البصيرة النافذة والعمل الصالح، والصبر على الحق حتى نلقاه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 





تعليق فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين كلمة الألباني وابن باز في التكفير
الذي فهم من كلام الشيخين: أَنَّ الكفر لمن استحل ذلك, وأما من حكم به على أنه معصيةٌ مخالفةٌ: فهذا ليس بكافر, لأنه لم يستحله, لكن قد يكون خوفًا, أو عجزًا, أو ما أشبه ذلك, وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث منزلة على الأحوالٍ الثلاثٍ:
 من حكم بغير ما أنزل اللهُ بدلًا عن دين الله, فهذا كفرٌ أكبر مخرجٌ عن الملة, لأنه جعل نفسهُ مُشرعًا مع الله عز وجل, ولأنه كارهٌ لشريعته.
 من حكم به لهوى في نفسه, أو خوفًا عليها, أو ما أشبه ذلك, فهذا لا يكفرُ, ولكنه ينتقلُ إلى الفسق.
 من حكم به عدوانًا وظلمًا, وهذا لا يتأتى في حكم القوانين, ولكن يتأتى في حكم خاصٍّ: مثل أَن يحكم على إنسان بغير ما أنزل الله لينتقم منه, فهذا يقال: إنه ظالم.
فتنزل الأوصاف على حسب الأحوال.
ومن العلماءِ من قال: إنها أوصافٌ لموصوف واحد, وأن كل كافر ظالمٌ, وكل كافر فاسقٌ, واستدلوا بقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254], وبقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}[السجدة:20], وهذا هو الفسقُ الأكبر. 

______________
(1) هذه الكلمة تم تسجيلها على الشريط السبعون بعد المائة السادسة، بتاريخ 12/5/1413هـ، الموافق 7/11/1992م. وقد نشرتها المجلة السلفية العدد الأول 1415هـ. كما نشرتها أيضاً جريدة المسلمون العدد (556) بتاريخ 5/5/1416هـ، الموافق 29/9/1995م. وأفردت بالنشر وقام عليها وتحقيقها الشيخ علي الحلبي حفظه الله, وقد قوبلت هذه النسخة على الكتاب المطبوع ((التحذير من فتنة التكفير)). طبعة دار الرَّاية. 

(2) راجع تخريج العلامة لهذه الآثار الصحيحة الجزء السادس صفحة (109) وما بعدها رقم (2552). 

(3) قال الشيخُ محمد بن صالح العثيمين: 
أحتج الشيخ الألباني بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك غيرُه من العلماء الذين تلقوه بالقبول، وإن كان في سنده ما فيه، لكنهم تلقوه بالقبول لصدق حقيقته على كثير من النصوص, فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((سبابُ المُسلمِ فسوقٌ، وقتالُه كفرٌ))، ومع ذلك, فإن قتاله لا يُخرجُ الإنسان من الملة، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ...} إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. 
لكن لما كان هذا لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول، ولا يصح عن ابن عباس، فيقال لهم: كيف لا يصح وقد تلقاه من هو أكبر منكم وأفضل وأعلم بالحديث، وتقولون لا نقبل ؟!! 
ثم هب أن الأمر كما قلتم: إنه لا يصح عن ابن عباس، فلدينا نصوص أخرى تدل على أن الكفر قد يطلق ولا يراد به الكفر المخرج عن الملة، كما في الآية المذكورة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتانِ في النَّاس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في النسبِ والنياحة على الميت))، وهذه لا تخرجُ من الملة بلا إشكال. لكن كما قيل: قلةُ البضاعةِ من العلم، وقلةُ فهم القواعد الشرعية العامة ـ كما قال الشيخُ الألبانيُ ـ وفقه الله ـ في أول كلامه ـ هي التي توجب هذا الضلال.
ثم شيء آخر نضيفه إلى ذلك وهو: سوء الإرادة التي تستلزم سوء الفهم؛ لأن الإنسان إذا كان يريد شيئاً لزم من ذلك أن ينتقل فهمه إلى ما يريد، ثم يُحرّف النصوص على ذلك. 
وكان من القواعد المعروفة عند العلماء أنهم يقولون: استدل ثم اعتقد، لا تعتقد ثم تستدل؛ فتضل. فالأسبابُ ثلاثةٌ هي: الأول: قلة البضاعةِ من العلم الشرعي. الثاني: قلة فقه القواعد الشرعية. الثالث: سوء الفهم المبني على سوءِ الإرادة.

 (4) قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين جواباً على سؤال سائل:
من سوء الفهم قول من نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: ((إذا أطلق الكفر فإنما يُراد به كفر أكبر))؛ مستدلاً بهذا القول على التكفير بآية:{ فأولئك هم الكافرون } !! مع أنه ليس في الآية أن هذا هو (الكفر) !.
وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام فهو تفريقه ـ رحمه الله ـ بين (الكفر) المعرّف بـ (أل)، وبين (كُفر) منكراً.
فأما الوصف؛ فيصلح أن نقول فيه: ((هؤلاء كافرون))، أو: ((هؤلاء الكافرون))؛ بناءً على ما اتصفوا به من الكفر الذي لا يخرج من الملة، ففرقٌ بين أن يوصفَ الفعلُ، وأن يُوصفَ الفاعلُ.
وعليه؛ فإنه بتأويلنا لهذه الآية على ما ذكر: نحكم بأن الحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر مخرج عن الملة، لكنه كفر عملي، لأن الحاكم بذلك خَرَج عن الطريق الصحيح.
ولا يُفرق في ذلك بين الرجل الذي يأخذ قانوناً وضعياً من قِبَل غيره ويحكّمه في دولته، وبين من يُنشيءُ قانوناً، ويضعُ هذا القانونَ الوضعيّ؛ إذ المهم هو: هل هذا القانون يُخالفُ القانون السماوي أم لا ؟

(5) قال الشيخ ابن عثيمين: نسأل الله العافية.

(6) قال العلامة الألباني معلقاً: ثم يلقبنا هؤلاء ـ بالباطل ـ مرجئة العصر !!!.

(7) قال العلامة الألباني معلقاً: ((ومن الأعمال أعمالٌ قد يكفر بها صاحبها كفراً اعتقادياً؛ لأنها تدل على كفره دلالة قطعيّة يقينيّة، بحيث يقوم فعله هذا منه مقام إعرابه بلسانه عن كفره؛ كمثل أن يدوس المصحف َ، مع علمه به، وقصده له)). 


(8) قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: 
هذا الكلام جيد، يعني أن هؤلاء الذين يحكمون على الولاة المسلمين بأنهم كفار ماذا يستفيدون إذا حكموا بكفرهم ؟ أيستطيعون إزالتهم ؟ لا يستطيعون، وإذا كان اليهود قد احتلوا فلسطين قبل نحو خمسين عاماً، ومع ذلك ما استطاعت الأمة الإسلامية كلها عربها وعجمها أن يزيحوها عن مكانها، فكيف نذهب ونسلط ألسنتنا على ولاة يحكموننا ؟ ونعلم أننا لا نستطيع إزالتهم، وأنه سوف تراق دماء وتستباح أموال، وربما أعراض أيضاً، ولن نصل إلى نتيجة.
إذاً ما الفائدة ؟ حتى لو كان الإنسان يعتقد فيما بينه وبين ربه أن من هؤلاء الحكام من هو كافر كفراً مخرجاً عن الملة حقاً، فما الفائدة من إعلانه وإشاعته إلا إثارة الفتن ؟ كلام الشيخ الألباني هذا جيد جداً. 
لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حل ذلك، هذه المسألة تحتاج إلى نظر(أ). لأننا نقول: من حكم بحكم الله، وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر – وإن حكم بحكم الله – وكفره كفر عقيدة.
ــــــــــــــــــــ
 (أ) قال العلامة الألباني معلقاً: لم يظهر لي وجه احتمالية هذه المخالفة، إذ أنني أقول: لو أن أحداً من الناس – ولو من غير الحكام – رأى أن حكم غير الإسلام أولى من حكم الإسلام – ولو حكم بالإسلام عملاً – فهو كافر؛ إذاً لا اختلاف، لأن المرجع أصلاً إلى ما في القلب.
لكن كلامنا على العمل.
وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر، وإلا فما الذي حمله على ذلك ؟ 
قد يكون الذي حمله على ذلك خوفاً من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون مداهناً لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي، وأهم شيء في هذا الباب هو مسألة التكفير الذي ينتج العمل، وهو الخروج على هؤلاء الأئمة، هذا هو المشكل. نعم، لو أن الإنسان عنده قوة يستطيع يُصفي كل حاكم كافر له ولاية على المسلمين، كان هذا مما نرحب به إذا كان كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، لكن المسألة ليست على هذه الصفة وليست هينة !!.

(9) وقد سُئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين عن الشبهة التالية وهي:
هناك شبهة عند كثير من الشباب هي التي استحكمت في عقولهم، وأثارت عندهم مسألة الخروج، وهي: أن هؤلاء الحكام المبدلون وضعوا قوانين وضعية من عندهم، ولم يحكموا بما أنزل الله فحكم هؤلاء الشباب بردتهم وكفرهم، وبنوا على ذلك: أن هؤلاء ما داموا كفاراً فيجب قتالهم، ولا ينظر إلى حالة ضعفهم لأن حالة الضعف قد نسخت، كما يقولون بآية السيف!!! (الآية 5 – التوبة) فما عاد هناك مجال للعمل بمرحلة الاستضعاف، التي كان المسلمون عليها في مكة !!.
فأجاب فضيلته عن هذه الشبهة فقال:
لا بد أن نعلم أولاً هل انطبق عليهم وصف الردة أم لا ؟
وهذا يحتاج إلى معرفة الأدلة الدالة على أن هذا القول أو الفعل ردة، ثم تطبيقها على شخص بعينه، وهل له شبهة أم لا ؟
يعني: قد يكون النص قد دل على أن هذا الفعل كفر، وهذا القول كفر، لكن هناك مانع يمنع من تطبيق حكم الكفر على هذا الشخص المعين.
والموانع كثيرة، منها: الظن ـ وهو جهل ـ ومنها: الغلبة.
فالرجل الذي قال لأهله: إذا مت فحرقوني واسحقوني في اليم، فإن الله لو قدر عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين؛ – والحديث أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – هذا الرجل ظاهر عقيدته الكفر والشك في قدرة الله، لكن الله لما جمعه وخاطبه قال: يا رب إني خشيت منك أو كلمة نحوها، فغفر له، فصار هذا الفعل منه تأويلاً. (أي غير مقصود له، ولا مُراد منه).
ومثل ذلك الرجل الذي غلبه الفرح، وأخذ بناقته قائلاً: اللهم أنت عبدي وأنا ربك!! – أخرجه البخاري، ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه – كلمة كفر، لكن هذا القائل يكفر؛ لأنه مغلوب عليه، فمن شدة الفرح أخطأ، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك !.
والمكره يكره على الكفر فيقول كلمة الكفر، أو يفعل فعل الكفر، ولكن لا يكفر بنص القرآن؛ لأنه غير مريد، وغير مختار. 
وهؤلاء الحكام، نحن نعرف أنهم في المسائل الشخصية ـ كالنكاح والفرائض وما أشبهها ـ يحكمون بما دل عليه القرآن على اختلاف المذاهب.
وأما في الحكم بين الناس فيختلفون … ولهم شبهة يوردها لهم بعض علماء السوء، يقولون: إن النبي صلى الله عليه و سلم يقول: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)). وهذا عام، فكل ما تصلح به الدنيا فلنا الحرية فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) !!.
وهذه ـ لا شك ـ شبهة. لكن هل هو مسوغ لهم في أن يخرجوا عن قوانين الإسلام في إقامة الحدود، ومنع الخمور وما شابه ذلك ؟.
وعلى فرض أن يكون لهم في بعض النواحي الاقتصادية شبهة، فإن هذا ليس فيه شبهة.
وأما تمام الإشكال المطروح فيقال فيه: إذا كان الله تعالى بعد أن فرض القتال قد قال:{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون } (65- الأنفال). فكم هؤلاء ؟! واحدٌ بعشرة.
ثم قال:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}.
وقد قال بعض العلماء: إن ذلك في، وقت الضعف، والحكم يدور مع علته، فبعد أن أوجب الله عليهم مصابرة العشرة قال: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً }.
ثم نقول: إن عندنا نصوصاً محكمة تبين هذا الأمر، وتوضحه؛ منها قوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. فالله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها وقدرتها، والله سبحانه يقول ـ أيضاً ـ: {فاتقوا الله ما استطعتم}. 
فلو فرضنا ـ بحسب الشروط والضوابط التي ذكرها العلماء الأجلاَّء ـ أن الخروج المشار إليه على هذا الحاكم واجب، فإنه لا يجب علينا ونحن لا نستطيع إزاحته، فالأمر واضح … ولكنه الهوى يهوي بصاحبه. 

(10) قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: 
يريد الشيخ الألباني أن يُصفى الإسلام أولاً، لأن الإسلام الآن فيه شوائب، شوائب في العقيدة، شوائب في الأخلاق، شوائب في المعاملات، شوائب في العبادات، كل هذه الأربعة.
في العقيدة: هذا أشعري، هذا معتزلي، هذا كذا، هذا كذا. 
في العبادات: هذا صوفي، هذا قادري، هذا تيجاني … إلخ.
في المعاملات: هذا يحلل الربا الاستثماري، وهذا يحرمه، وهذا يبيح الميسر، وهذا يحرمه. 
فتجد أن الإسلام يحتاج أولاً إلى تصفيه من هذه الشوائب، وهذا يحتاج إلى جهود كبيرة من العلماء وطلاب العلم، ثم بعد ذلك يتربى الشباب على هذا الإسلام المصفى من هذه الشوائب. فعندئذ يخرج جيل من الشباب على عقيدة سليمة وأخلاق وآداب كريمة موافقة للكتاب والسنة والسلف الصالح.

(11) قال الشيخ ابن عثيمين: هذه الكلمة جيدة، والله المستعان.

(12) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1511) بتاريخ 11/5/1416هـ, الموافق 5/10/1995م.  كما نشر أيضًا في جريدة (المسلمون) العدد (557) بتاريخ 12/5/1416هـ, الموافق 6/10/1995م. وانظر:((مجموع فتاوى ومقالات متنوعة))(9/124).

(13) رواه البخاري في الإيمان برقم 46، ومسلم في الإيمان برقم 97, واللفظ متفق عليه.

(14) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم 100، وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم 10030.

(15) رواه البخاري في كتاب العلم برقم 118، ورواه مسلم في الإيمان برقم 98 واللفظ متفق عليه.

(16) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم 3509 واللفظ له، ورواه الترمذي في كتاب العلم برقم 2595، وأبو داود في الأدب برقم 4464.

(17) رواه مسلم في العلم برقم 4831، والترمذي في العلم برقم 2598، وأبو داود في السنة برقم 3993، وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم 8795.

(18) رواه البخاري في المناقب برقم 3425، ورواه مسلم في فضائل الصحابة برقم 4423 واللفظ متفق عليه.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة