تجريد التوحيد شريط نادر للعلامة الألباني رحمه الله تعالي محاضرةٌ قديمةٌ في التَّوحيد والسُّنَّة

تجريد التوحيد، وهي محاضرة نظمتها جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر للعلامة الألباني في شبابه سنة 1380هـ/1960م

 

للمقدمة :
المتكلم 1: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم ، اليوم : السبت الموافق : خمسة ربيع الأول سنة 1380ه الموافق 27 أغسطس سنة 1960مـ . المكان : المركز العام لِجماعةِ أنصار السُّنَّة المحمديَّة . يحاضرنا اليوم ضيفنا الكريم فضيلة الأستاذ الشَّيخ (أبو) عبد الرَّحمن (محمد) ناصر الدَّين الألباني .

 العلامة الألباني : السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 الحضور : وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته .

 المتكلِّم 2 : فيَسُرُّنِي أيُّها الإخوان أن أقَدِّمُ إليكم مُهَاجِراً في سبيل الله ومُجَاهِداً في سبيل الله والأخ السَّلَفِيُّ العالم الجليل الشَّيخ (أبو) عبد الرحمن محمَّد ناصر الدِّين الألباني . هذا الرَّجل -المعروف بِسَلَفِيَّتِهِ الوَثِيْقَة وجهاده في سبيل الكتاب والسنَّة- أتى إلى أن يُشَارِكَ دارَكم اللَّيلةَ ويَسْعَى إليكم سَعْيَ الأخِ المُشْتَاقِ إلى إخوانه المشتاقِين أيضاً إليه . وسيقول لكم تَحَيَةٌ وأقول أنَّه ما تَوَارَدَ فينا كلامٌ يقوله اللَّيلةَ ؛ ولكنَّه إن شاء الله سيقول لكم شيئاً عن شُعُوْرِهِ نَحْوَكم . وأسأل الله أن يُقَرِّبَ دائماً بين المسلمين في جميعِ أقطارِ العلمِ . الحُضور : آمين المتكلِّم 2 : وأحِبُّ أنْ أقولَ لأخي الجليل : إنَّ أنصارَ السَّنَّةِ هَاهُنَا قائمون على كتابِ اللهِ وحُفَّاظاً على سُنَّةِ رسولِ اللهِ -عليه الصَّلاة والسَّلام- . ورَغْمَ ما يُشِيْعُوْهُ عَنْهم الخَرَّافُوْنُ ، مثلاً ، بأنَّهم وَهَّابِيُوْن وبأنَّهم مُجَسِّمَةٌ وبأنَّهم يَبْغَضُوْنَ أولياءَ اللهِ ربِّ العلمين . وحَاشَا لأنصارِ السُّنةِ أنْ يَكُونَ وهَّابيين بالمعنى المفهوم في أَذْهَانِ النَّاس . فأولى أَنْ يُقالَ عن أنصارِ السُّنَّةِ أنَّهم مسلمون ، فهم لا يُقَالِدُوْنَ أحداً في دينِهم غيرَ رسولِ اللهِ -عليه الصَّلاة والسَّلام- ، لا محمدَ ابن عبدِ الوهَّاب -على جَلَالِهِ وعلى سَبْقِهِ في الدِّين- ولا ابنَ تِيْمِيَةَ ولا خلافَ هؤلاء العلماء الأجلاء . نُقَلِدُهم في دِيْنِنَا ؛ إنَّمَا نُقَلِدُ رسولَ اللهِ -عليه الصَّلاة والسَّلام- . ولَسْنَا مُجَسِّمَةً كما يقولُ النَّاس ، إنَّمَا نَصِفُ اللهَ بِمَا وصف به نَفْسَهُ ونُسَمِّيْه بما سمَّى به نَفْسَهُ . ولسنا نَبْغَضُ أولياءَ اللهِ ، وكيف واللهُ -تعالى- يقول : ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس : 62] . كلُّ الخِلَافِ بَيْنَنَا وبين هؤلاء -الذين يَتَهِمُوْنَنَا بذلك- أنَّهم يَسُوْمُوْنَ الأصنامَ أولياءَ للهِ ، ونحن نقولُ للنَّاسِ قَوْلَةَ الحَقِّ الصَّرِيْحَةِ : ((إنَّ هذه الأصنَامَ أصْنَامٌ تُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ)) فَيُسَمِّي الأشْيَاءَ بِأَسْمَاءِ اللهِ . لهذا نُكَافِحُ ولهذا نُجَاهِدُ مَهْمَا كَانَتْ في طَرِيْقِنَا من العَقَبَاتِ . فَنحن نُؤْمِنُ أنَّ الذين يُدَافِعُوْنَ عَنْ اللهِ سيُدَافِعُ اللهُ عنهم ، وكما دَفَعَ اللهُ عن الأخِ الَضَّيفِ الكبيرِ سيُدَافِعُ اللهُ عن كلِّ مُؤْمِنٍ . والآن أُقَدِّمُ لكم الأخ الجليل وأشْكُرُه شكراً جزيلاً بإسمِكم جميعاً ...يعني نياباً عنكم جميعاً ، أشكر الأخ الضَّيف الكبير وأسأل الله لي وله ولكم التَّوْفِيْقُ . والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته . 

 كلمة العلامة الامام محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني تغمّده الله برحمته وأدخله فسيح جنّته
 العلّامة محمد ناصر الدين الألباني : الواقع أيُّها الإخوان أنَّ الأمرَ كما ذكر الأستاذ الكريم أنَّنِي حضرتُ هنا لِكي أَسْتَمِعَ الكريمة ، أستفيدها من إخوتي في المذهب السَّلفي النَّقي الطَّاهر . ولم أُزَاوِر في نفسي كلاماً أقدِّمُهُ إلى السُّوَّال ، فما وقد يُحرِج فَلنَنْظُرَ ماذا يُلْهِمُنَا الله -عزَّ وجلَّ- به من الكلامِ . وخير ما أُقدِّمُ به ما قد تَتَقَدَّم به من الكلام بين يَدَيْكُم . وهو أن أَفتَتِحَهُ بِخُطْبَةِ الحَاجَةِ التي كان رسول الله -صلىالله عليه وعلى آله وسلم- يُعَلِّمُها أَصْحَابَه . هذه الخطبةُ الجليلةُ التي -مع الأسف الشَّديد- يَجْهَلُهَا أكثَرُ الناسِ ولا أعنِي بِهِم العَامَة فَحَسِبْ ! ،بَل الخَاصَةُ . كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُها أَصْحَابَه لِيَتَقَدَّمَ بِهَا بَيْنَ أيدي كلِّ خطبةٍ وكلامٍ دينيٍّ لِيَتَقَدَّمُونَ به بين إخوانهم .فأقول اتِّبَاعاً لِسنةِ رسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- بين يدي هذه الكلمة : إنَّ الحمدَ للهِ ، نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شُرور أَنْفُسِنَا ومن سَيِّئات أعمالِنا ، من يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، و من يضلل فلا هاديَ له ، وأشهدأن لا إله الا الله وحده لا شريكَ لهُ ، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله . ﴿يَاأَيها الذين آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون﴾[آل عمران : 102] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء : 1] ﴿يَا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَعمالكم وَيَغفر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطع الله وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً﴾[الأحزاب : 70 ، 71] ثمَّ أُتْبِعَ هذه الخطبةُ المباركةُ بالجُملة الطَّيِّبة التي كان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- كثيراً ما يُقَدِّمُهَا بين يدي خُطَبِهِ ، خَاصَةً يومَ الجُمْعَةِ ، فكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول بعد الحَمْدَلَةِ: أمَّا بعد : فإنَّ خيرَ الكلامِ كلامُ الله ، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- ، وشرُّ الأمورِ محدثَاتُها ، وكلُّ محدثةٍ بدعةٌ ، و كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالةٍ في النار [1] . هذه الكلمةُ أَعتقدُ أنَّ هي الفصلُ الحاكمُ بين إخوانِنَا في سائرِ العَلَمِ الإِسلامي ، أَنصارِ السَّنَّة أو السَّلفيِيْن أو المحمَّدِيِيْن، وبين الآخرِيْن مِمَّن يَنْتَمُوْنَ إلى الإسلامِ قَوْلاً أو فِعْلاً مَهْمَا في ذلك مِن الخطاءِ والبُعْدِ عَنْ التَّحقِيْقِ العَمَلِي لِلْقَولِ الصَّادِقِ ؛ لأنَّ الرَّسولَ -عليه الصَّلاة والسَّلام- يَقولُ في هذه الكلمةِ : ((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةً فِي النَّارِ)) . ولقد كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم كأنَّه على علمٍ -طبعاً مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- ؛ لأنَّنَا كلُّنَا نَعْلَم أنَّ الرَّسولَ-عليه الصَّلاة والسَّلام- مِن حَيْثُ العِلْمِ بالغيبِ ، هو كسائرِ البشرِ ﴿... وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ... ﴾[الأعراف : 188] إلى آخر الآية الواردةِ في نَفسِ العِلْمِ أنَّ الرَّسولَ-عليه الصَّلاة والسَّلام- عَلِمَ الغَيْبَ . ولكنَّنَا نَعْلَمُ أيضاً في الوقث نفسه أنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- كان يُطْلعُ نَبِيَّهُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- على بعضِ المُغَيَبَاتَ التي تَتَحَقَق مَصْلَحَةُ المسلمين في أَذْهَانِ رسولِ اللهِ -عليه الصَّلاة والسَّلام-بِهَا إيَّاهم . فكأنَّ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- أُريد أنْ أَقول كان يَعلم ما سَيَقَعُ فيه المسلمون من الإِحداثِ في الدِّين والإبتداعِ فيه ، سواءً كان هذا الإبتداع في العقائدِ أو كان في العباداتِ . ولذلك ، كان تحقيقاً لما وصفه الله -تبارك الله وتعالى- به من أنَّه ﴿... بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التَّوبة : 128] ، كان يُنَبِهُهم في كلِّ مناسبة وخاصةً المناسبةالتي يَجْتَمِعُ فيها أكبر العَدَدِ منَ المسلمين ، وهي مُنَاسبةُ خطبةِ الجمعةِ .فكان يَخْطُبُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- بهذه الجملة الكريمة : أمَّا بعد : فإنَّ خيرَ الكلامِ كلامُ الله ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله تبارك وتعالى عليه وعلى آله وسلم- ، وشرُّ الأمورِ محدثَاتُها، وكلُّ محدثةٍ بدعةٌ ، و كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالةٍ في النار . مع هذا -والأسف الشَّديد- ، نَجِدُ المسلمين قد غَفِلُوا أو جَهِلُوا هذه الحقيقة . بل ، قَدَّمُوهَا وعَكَسُوهَا فالرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول : ((كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) . وهذه كما هو معلوم في الأصول من عامِّ صِيَّغِ العُمومِ والشُّمولِ ((كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) ، مع ذلك هم يَأْتُوْنَ إلى هذه الكليَّة فيُعَاطِلُوْنَها بقولهم : ((ليس كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) . هذه مُشَاقَة في الحقيقة لله والرَّسول . فنحن يَجِبُ أن نَظَلَّ ونَتَمَسَّكَ بهذا المبدأ، ففيه تَحْقِيْق الأصلِ الثَّاني هو المُتَمِمُ للأصلِ الأولِ ، والأصلُ الأولُ والثَّاني يُسَاوِي في مَفهومِنَا - هو- الإسلام . هذان الأصلان ممّا يشرحُهُمَا ويُقَرِرُهُمَا شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ، يقول أنَّ : ((الإِسْلَامَ يَقُوْمُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ -تبارك وتعالى- وَحْدَهُ -)) . وبالطَّبعِ كما تعلمون ، المقصود بالعبادة : هو توحيد الله -عزَّ وجلَّ- في عِبَادَتِهِ وفي أُلُوْهِيَّتِهِ ، وليس المقسود : الإعتقاد أنَّ الله هو الخالق وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ له في ذَاتِهِ ، فإنَّ هذا كما تعلمون شَيْئٌ يَشْتَرِكُ فيه المشركون . المشركون كانوا يعتقدون أنَّ الخالقَ وَاحِدٌ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[الزُّمر : 38] ، ولكنهم ما كفروا ولا أشركوا إلَّا لأنَّهم جَحَدُوا عُبُودِيَّةَ اللهِ وَحْدَهُ ، عبدوا غَيْرَ الله مع اعتقادهم بأنَّ اللهَ هو الخَالِقُ الرَّازِقُ المُحْي المُمِيْتُ . كما يَزْعُمون عمَّن ينتمي إلى الإسلام ، يقولون : هؤلاء لا يعتقدون أنَّهم يخلقون ويرزقون وإلى آخره فيشهدون هذه الحقيقة . هم إذا قالوا عن بعض الجُهَّال من المسلمين ، إنَّهم لا يعتقدون أنَّ هذا المَيِّت الذي يستغثون به هو يَضُرُّ ويَنْفَعُ، فما يصفونهم بأكثر مِمَّا يَصِفُ المسلمُ العَالِمُ أيَّ مشركٍ ، المشرك كان يعتقد أنَّ الضَّارَّ والنَّافِعَ والرَّازق والمُحْي والمُمِيْتُ هو الله -عزَّ وجلَّ-. إذاً لما كفر هؤلاء المشركون ، لجَحْدِهم لتَوحيد العبوديَّة وتوحيد الأُلوهيَّة. القصد أنَّ ابنَ تَيْمِيَةَ -رحمه الله- يُقَرِرُ أنَّ الأصلَ الأول الذي يقوم عليه الإسلام : هو توحيدُ اللهِ في عِبَادَتِهِ والأصلَ الثَّاني : هو عِبَادَةُ اللهِ -تبارك وتعالى- بما شَرَعَ لا بما اِبْتَدَعَ المُنْتَمُوْنَ للإسلام . فهذان الأصلان عظيمان جداً ، من فَهِمَهُمَا ثُمَّ حَقَقَهُمَا عملياً فهو مسلم ، ومن أَخَلَّ بحديث النَّاسِ فقد أَخَلَّ بأصلٍ من الإسلام بإعتبار أنَّه لايكون مسلماً في دينه . وأنتم تعلمون أنَّ كلَّ ذَنْبٍ لأنصار السُّنَّة في جَمِيْعِ بلادِ الإسلامِ عند المُخَالِفين لهم ، هو تَمَسُّكُهم بهذين الأصلين ،هو دَعْوَتُهم بِصَرَاحَةٍ وبِقُوَّةٍ النَّاسَ جَمِيْعاً مُسْلِمِيْهم المنتمين –طبعاً- إلى الإسلام وكافريهم إلى أنْ يوحدوا اللهَ -تبارك وتعالى- في أُلوهيَّتِه وفي عِبَادَتِه. ونحن لَسْنَا بِحَاجَةٍ كما أنَّ قُدْوَتَنَا محمَّد -صلى الله عليه وسلم- لم يكن بِحَاجَةٍ إلى أن يَدْعُوَ النَّاس إلى توحيدِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- في ذاته . فالبشريَّة باعتبار أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- خلقهم على الفطرة وخلقهم على أَنَّهم لا يُمْكِنُهم أن يَعْقِلَ وجود ذَاتَيْن تَتَصَرَّفَا نفي الكون ؛ لذلك كان من قَبِيْل كما يقول بعض الفقهاء : «تحصيل الحاصل» . أن يدعوَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ خَاصَةً الذين أريدُ بينهم مِن المشركين ،أن يدعوَهم إلى أن يوَحِّدُوا اللهَ في ذَاتِهِ . هذا الأمر «تحصيل الحاصل» ، لأنَّ المشركين كانوا كما ذكرنا آنفاً يعتقدون بأنَّ اللهَ كذاتٍ خالصةٍ ، هي واحدةٌ لا شريكَ لها . وأنتم تعلمون ولستم بِحَاجَةٍ إلى أن اطِيْلَ في مثلِ هذه الأُمُوْرُ الإِعْتِقَادِيَّة ؛ لأنَّكم والحمدُ للهِ أَفْلَحْتُم -مِنعَالِمِكُم إلى طالبِكُم العِلْمِ- دُعَاتاً في مثلِ هذه المواضع والحمد لله . ولكن، هي قبل كلِّ شيئٍ تَبَادُلُ الآراءِ والأفكارِ ، وثانياً قد يكون هناك في بعض النَّاس مِمَّنْ يسمعون كلامَنَا الآن مَنْ هم بِحَاجَةٍ إلى ذكرى و﴿... الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذَّاريات : 55] إن شاء الله . فالرَّسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن لِيَدْعُوَ النَّاسَ إلى أن يُوَحِّدُوا اللهَ في ذاتِهِ لأنَّهم بالواقع كانوا يُوَحِّدُون الله-تبارك وتعالى- في ذاتِهِ ، إنَّما دَعَاهُم إلى توحيدِ اللهِ-عزَّ وجلَّ- في ألُوْهِيَّتِهِ-أيُّ أنَّهُ ليس هناك ذاتٌ أُخرى تَسْتَحَقُ الخُضُوْعُ والخُشُوْعُ- ، وإلى توحيدِ اللِه في عِبَادَتِهِ -بِحَيْثُ لا يُعْبَدُ سِوَاهُ- . وفي الحقيقةِ ، كلٌّ من التَّوحيدين الذَيْنِ مسميان بتوحيد الألوهيَّة وتوحيد الرُبُوبيَّة ينفذان إلى معنى واحدٍ ؛ لأنَّ الألوهيَّة -وهي الخضوع لله -عزَّ وجلَّ- ليس شيئاً قلبياً فقط ، وإنَّما هو شيئٌ عمليٌ، يَظْهَرُ ما كَمَنَ في القلبِ من التَّوحيدِ أو من الشِّركِ . فهذه العِبَادات يَجِبُأن تُصْرَفَ ويُخَافَ بها الله -عزَّ وجلَّ- . فدُعَاة السُّنَّةِ في كلِّ البلاد كما قلنا ،هذا هو ذنبهم الأول عند الآخرين . أنَّهم -هم- تركوا شيئاً في أَنْفُسِهِم لا يَسْمَحُونَ مطلقاً أن يَعْبُدَ غيرَ اللهِ ، إنَّما يعبدون الله وحده لا شريك له . والمشركون ،هذا الذي كانوا يُنْكِرُوْنَهُ ويَشْهَدُوْنَهُ ، وهذا ما هو صريحٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ. وإذا قيل ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ)) يَسْتَكْبِرُوْنَ ، وكان أحدهم إذا طاف البيت يقول : ((اللَّهُمَ لَبَيْكَ اللَّهُمَ لَبَيْكَ ، لَا شَرِيْكَ لَكَ لَبَيْكَ ، إنَّا لحمدَ والملكَ لَكَ ، لَا شَرِيْكَ لَكَ إلَّا شَرِيْكٌ تَمْلُكُهُ وَمَا مَلَكَ))، فما هذا الشَّرِيْكُ الذي يَمْلُكُهُ وَمَا مَلَكَ ، هذه عقيدة المشركين ، ... يعتقدون[أنَّ] المالك الحقيقي هو الله -تبارك وتعالى- . وهذا صريحٌ في الآية الكريمة ﴿... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَىاللَّهِ زُلْفَى ... ﴾[الزُّمر : 3] ، فهذه الآية نصٌّ صريحٌ بأنَّ المشركين كانَتْ غَايَتُهم هي الله -عزَّ وجلَّ- ، وأنَّ الذين يَعْبُدُوْنَهُم من دون الله -عزَّ وجلَّ-، كانوا يَأْتَخِّذُوْنَهم وَسَائِط لا غَايَات . الغاية حتى عند المشركين هو أنْ يَصِلَ الى مَرْضَاتِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ولكنَّهم ضَلُوا الطَّريق حِيْنَمَا إِتَخَّذُوا هذه الوَسَائِط تُوصِلُهم [و]تُقَرَّبُهم إلى الله . لا يزال كثيرٌ من النَّاس اليوم -والأسف الشَّديد-لا يفقهون معنى العبادة ولا يَدْرُوْنَ كيف أَشْرَكَ المشركون ، هذه لا يزال لا يفقهونها معنى . ﴿... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ... ﴾[الزُّمر : 3] ، إيش معنى هذه العبادةِ التي أَثْبَتُوهَا لأَنفُسِهِم للغايةِ أنَّه تُوْصِلُهُم إلى الله -إلى مرضاةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ؟ أكثر المسلمين لا يَعْرِفُوْنَهَا، مع أنَّهُ من الثَّابِتِ في الكتاب والسُّنَّة - . كما تعلمون- أنَّ هذه العبادة هي دعوةُ غير الله -عزَّ وجلَّ- خاصةً في الشَّدائِدِ والمضايق ، هذه العبادة مُخِلَة بعبادة توحيد الله -عزَّ وجلَّ- . وكذلك النَّذر لهؤلاء ، فالعبادة التي عبدها المشركون لعظماءهم وأولياءهم هي هذه الأشياء ، خَصُّوهم بِالاِسْتِغَاثَةِ بغير الله وخَصُّوهم بالنَّذْرِ لهم وخَصُّوهم بالذَّبْحِ عندهم ، وهكذا إلى ما هو معلوم إليكم . هذا هو الأصل الأول الذي يدعو إليه أنصار السُّنَّة: أن يُعْبَدَ اللهَ وَحْدَهُ وأن يبطلَ ما سواء ذلك من الوسائط . والأصل الثَّاني ، وهو مهمٌّ -أيضاً- جداً ، وكثيرٌ من النَّاس تَعْرِفُوْنَهُ ، هو أن لا يُعْبَدَ الله إلَّا بما شَرَعَ الله . وهذه الجملة قصيرة لكنَّها تحمل شَطْرَ الإسلام كما عَلِمْتُم . ويُعْجِبُنِي بهذه المناسبة كلمة للشَّيخ المقريزي في رسالته «تجريد التَّوحيد المفيد» -ولَعَلَّه استفادها من كتب شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَةَ-رحمه الله- أو تلميذه ابن القيِّم- . يقول حِيْنَمَا يَتَكَلَّمُ عن توحيد الأُلُوْهِيَّةِ وتوحيد الرُّبُوْبِيَّةِ وتوحيد الصِّفات -ثمَّ يقسِمُ النَّاس إلى أقسامٍ بنسبةِ لموقفِهِم في توحيد العبادةِ- ، يقول في أثناء ذلك : ((ليس الشَّأن أنْ يُعْبَدَ الله وحده فقط، ولكنَّ الشَّأن أن يُعْبَدَ الله بما شرع الله)) . هذه الجملة عَظِيْمَةٌ جِدًّا، يعني ليس المقصود فقط أنْ يُعْبَدَ الله وحده ، نحن ندعو إلى عِبَادَةِ الله وحده لكنَّ هذا لا يكفي ، لا يكفي للتَّوحيد الصَّحيح إلَّا بأنْ نَعْبُدَ اللهَ بما شرع الله . ولذلك ، تَجِدُوْنَ الله -عزَّ وجلَّ- يَصِفُ المشركين بقوله -تبارك وتعالى- : ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ... ﴾[التَّوبة : 31] . وتعلمون القصَّة التي حَدَثَتْ عند نزول هذه الآية ، وهي أنَّ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- لما نَزَلَتْ هذه الآية وتلاها على سمعِ الصَّحابة كان فيهم عدي ابن حاتم الطائي وقد كان نَصْرَنِيًّا ، وهو من النَّصارى القليلين الذين أسلموا وكانوا مُتَعَلِّمِيْن أو عُلَمَاءُ ؛ لأنَّكم تَعْلَمُوْن أنَّ العَرَبَ كانوا أُمِيِيْنَ وكان قليل منهم من يَحْسِنُ القِرَاءة والكتابة . وهذا عدي ابن حاتم -من هؤلاء القليل- الذي تَعَلَّمَ القِرَاءة والكتابة ثم وَجَدَ المشركين على الضَّلال المُبِيْن فرَأَى أنَّ النَّصْرَنِيَّة خير من الشِّرك فَتَنَصَّرَ . ثُمَّ لما جاء الله بالإسلامِ على يَدَيِّ محمَّد-عليه الصَّلاة والسَّلام- ، آمَنَ بِمُحَمَّدٍ رسولاً نَبِيًّا ، وكان حِيْنَ نَزَلَتْ الآية السَّابِقَة في مَجْلِسِ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- ، فلما سَمِعَهَا اِسْتَغْرَبَ ما فيها . طبعاً ، لا يَسْتَنْكِرُ لأنَّه مسلم ، فقال: ((يا رسولَ اللهِ ، كيف اتَّخَذْنَاهم أربَاباً من دون الله)) قال : ((ألَسْتُم كُنْتُمْ إذا حَرَّمُوا لَكُم حَلَالاً حَرَّمْتُمُوْهُ وإذا حَلَّلُوا لَكُمْ حَرَاماً حَلَّلْتُمُوْهُ))قال : ((بَلَى)) قال : ((فَذَاكَ اتِّخَاذُكُمْ إيَّاهُمْ أربَاباً من دون الله))[2]، -في هذا معنى- . هذا تَأْيِيْدٌ لِلأَصْلِ الثَّانِي ، وهو أنْ لا نَعْبُدَ اللهَ إلَّا بِمَا شَرَعَ الله . فأيُّ مسلمٍ يُحَرِّمُ مِن عِنْدِهِ بِدُوْنِ نَصٍّ من كتاب الله ورسوله أو يُحَلَّلُ مِن عِنْدِهِ بِدُوْنِ نَصٍّ من كتاب الله ورسوله ، أو يُحَسَّنُ كَمَا يَقُولُ الإمامُ الشَّافِعِي -رضي الله عنه- في أَوَلِ رِسَالَتِهِ المَعْرُوْفُ بــ «الرِّسَالَةُ : رسالة الإِمَامِ الشَّافِعِي» ، يقول: ((مَنْ اِسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَعَ)) ، هذا المعنى عظيمٌ ومَأْخُوْذٌ مِن الآية السَّابِقَةِ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ... ﴾[التَّوبة : 31] . فهذا الأصل الثَّاني هو الذي يُتَمِمُ الأصل الأول وبِمَجْمُوْعِ ما يَتَحَقَقُ إسلام المُسْلِمِ . ولذلك ، نَجِدُ -مع الأسَفِ الشَّدِيْدِ-أنَّ كثيراً من المُنْتَمِيْنَ إلى الإسلامِ اليَوْم ، هم بَعِدُوْنَ كُلَّ بُعْدِ عَن الإسلام ، في الأصل الأول وفي الأصل الثَّاني . لَيْتَ الأمر وَقَف في الخِلَافِ في أصلٍ من هَذَيْنِ الأصلَيْنِ ، ولكن -مع الأسف الشَّديد-الخِلَافُ في الأصلَيْنِ مَعاً . فَهُمْ يُسَمُّوْنَ -مثلاً- التَّوَسُّلَ بالاِسْتِغَاثَةِ بغير الله ، يُسَمُّوْنَه تَوَسُّلاً -أيّ تَقَرُّباً إلى الله -عزَّ وجلَّ- . ونحن وأنْتُم من رجلاً علميًّا نُفَرِّقُ بين ما يُسَمَّى بالاِسْتِغَاثَةِ -وهو طَلَبُ الغَوْثِ من غير الله -عزَّ وجلَّ- وبين التَّوَسُّلَ بمعنى العِلْمِ الذي وُجِدَ فِيْهِ بَعْضُ الإخْتِلَاف ، وهو إِيْصَالُ الوَاسِطَةِ بَيْنَكَ وبين الله ولكنَّك في الوقت نفسه تَطْلُبُ من الله ، لا تَطْلُبُ من الوَسِيْطِ . نُفَرِّقُ بين هذا وذاك ولكنَّنَا نَعْتَقِدُ أنَّ هذه الوَسِيْلَة علميَّة ، لا الوَسِيْلَة التي هم يَفْهَمُوْنَهَا بِمَعْنَى الإسْتِغَاثَة ، تُؤَدِي إلى الإِسْتِغَاثَةِ التي هي شركٌ صغير . فَخُلَاصَةُ القَوْلِ أنَّ النَّاسَ اليوم في جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَة ، لِزَجْرِهِم عن الإسلام كلَّ البُعْدِ . وهذا تَصْوِيْرُهُ: أنَّهُم يَجْهَلُوْنَ الأصل الأول والأصل الثَّاني . ولو أنَّ الأمَر -أيضاً- وَقَفَ عند الجَهْلِ لَهَانَ الخَطَبُ بَعْضَ الشيئ ، ولكنَّه يَقِفُوْنَ في صفِّ المحاربين والمعادين لمن يَدْعُو إلى عبادةِ اللهِ وحده ولمن يَدْعُو إلى عبادةِ اللهِ بِمَا شَرَعَ الله . يَقِفُوْنَ مَوْقِفَ الإلَهِ وليس هذا الإله يَقِفُ كما يَقِفُ كلُّعَدُوٍّ تُجَاهَ عَدُوٍّ آخر ، ولكنَّهم يُعَادُوْنَ دعاة السَّنَّة ودعاة التَّوْحِيْدِ ودعاة مُحارِبَةِ البِدَعِ ، يُعَادُوْنَهُم أَشَدَّ مُعَادَاتِ عند المَلَاحِدَة والكُفَّارِ وإلى آخر ما هنالك من الأحذاب والفِرَقِ . فهذا ممَّا يُجَنِي وَضْعَ المُسْلِمِيْنَ اليَوْم ويَحْمِلُ دعاة السُّنَّة على أن يُجَنِّدَ أنفسَهُم ليَكُوْنَ صفًّا واحداً وعوناً ويَدًّا واحداً لتَوْجِيْهِ هؤلاء الضَّالين إلى مَعْرِفَةِ ما دَعَاهُم إليه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - ، الذي يَتَظَاهَرُوْنَ بِتَعْظِيْمِهِ لإِقَامَةِ حَفَلَاتٍ ما يَرْضَاهَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وهي في الواقعِ تَدْخُلُ فِيْمَا يُنَافِي الأصل الثَّاني ، أيُّ : عِبَادَةُ اللهِ بِمَا شَرَعَ اللهُ ، فهم يَعْبُدُوْنَ الله بِغَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُ . ونحن والحمد لله لا نَزَالُ نَدْعُوا وسَنَظَلُّ نَدْعُوا إلى آخر النَّفَسِ من حَيَاتِنَا بِإِذْنِ الله -تبارك وتعالى- . وإن كنَّا نحن نُضِيفُكم أنَّكم تَجِدُون الحريَّة المطلقة في دعوةِ الحقِ بَيْنَما نحن لا نجد مجالاً إلا مع الاقتياد الشديد على مايُسَمَّونَه بالقوانين وبالأوامر الإدارية وما يشبه ذلك . وأنا شَخْصِياً -نظراً لأني أعلم بالجور الذي أعيش فيه- ، لا أَسْتَطِيعُ حتى اليَوْم أن أَتَحَدَّثَ بكلمةٍ قد تَصِلُ إلى خَارِجِ هذه الدَّارِ -هناك في دِّمَشْق- ، لا أستَطِيعُ أن أَفْعَلَ هذا . ولا أستَطِيعُ أن أَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ في المَسْجِدِ ، وقد فَعَلْنَا مِرَاراً ، تَكَلَّمْنَا في المَسَاجِدِ . مش خَوْفاً ولكِن دَرْئًا للمَفْاسَدِ وللفِتْنَةِ ، وتَحْقِيْقاً-فِيْمَا نَظُنُّ- لحديث السَّيِّدَةِ عَائِشَة -رضي الله عنها- التي تَقُولُ أنَّ الرَّسُولَ -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما رآها تَعْزِم على أن تَسْكُنَ جَوْفَ الكعبة لِتُصَلِيَ فيه ، قال لها : ((صَلِي في الحِجْرِ فإنه من الكعبة))[3] -والحِجْرِ تعلمون هو مكان خارج من الكعبة- ، ((...ولَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حديث عهد بالشِّركِ ، لَهَدَمْتُ الكعبة ولَبَنَيْتُهَا على أسَاسِ إبراهيم -عليه السَّلام- ولَجَعَلْتُ لها بابين ، بَاباً يَدْخُلُوْنَ منه وبَاباً يَخْرُجُوْنَ منه))[4] إلى آخر الحديث . فنحن لا نَسْتَطِيعُ اليَوْمُ أن نَتَكَّلَمَ بِكَلِمَةِ الحَقِ مع أنَّنَا نتعاصر كُلَّ الوَسَائِلِ التي تَدْخُلُ في عُمُوْمِ قَوْلِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- : ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ... ﴾ [النحل : 125] ، ما نَسْتَطِيعُ أن نَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الحَقِ في مَسْجِدٍ من المساجد . وإن كنَّا حَاوَلْنَا كَمَا قُلْنَا ولَكِن كَانَ فِي جدالك أن صُدِرَتِ المَسَاجِدَ من أيْدِيْنَا وصُدِرَتِ الأوقاف ، وبعضها جعلت مثل التَّكِيَة لِيَقُوْمَ بعض النَّاس فِيْهَا بِمَا يُسَمُّوْنَه بالذِّكر ونُسَمِّي نحن بِالرَّفَثِ -أيُّ نَعَمْ- . وكان نَتِيْجَة الأمرِ أن لم يُجْعَلْ ، لا داراً للتَّوحِيدِ ولا داراً للصَّلاة -الصَّلاة الخمسة على الأقل- ، أُغْلِقَ وخُتِمَ بالشَّمعِ الأحمر . ومَسْجِدٌ آخر أكبر من ذلك صُدر بِطَرِيْق مايُسَمُّونَه بِالمُقَاوَمَة الشَّعْبِيَّة ؛ لما حَصَلَت بعض الحَوَادِث ... استمروا في بعض المساجد فصَدَرُوه منَّا ، هذا في الحلب ، وبَقِيْنَا نَضْطَرُّ إلى أن نَتَدارَسَ الكِتَابَ والسُّنَّةَ في بُيُوتِنَا الخَاصَة . لم يَكْتَفِي الأمر عند هذه الحَدِّ أَيُّها الإخْوَان، إنَّمَا مُنِعْنَا أيضا حتى الإِجْتِمَاعَ في الدارِ الخَاصة . وأنا شَخْصِيًّا أَسْكُن الدِّمَشق ولي إجْتِمَاعٍ في كلِّ أُسْبُوْعٍ ، في يومِ الخَمِيْسِ ويومِ الجُمْعَةِ وأُدَرِّسُ في يَوْمِ الاثنين الكتاب «التَّرْغِيْبُ والتَّرْهِيْبُ» . وهذا [الكتاب] أَعْتَقِدُه كتابٌ مُفِيْدٌ ومُوَجِّهٌ ، وبِحَاجَةِ لِجَمَاعَةِ أَنْصَارِ السُّنَّةِ كُلِّهِم أن يَتَفَقَّهَ بهذا الكتاب لأنَّكُم تَشْعُرُوْنَ بِمَعْنَاهَا : «التَّرْغِيْبُ والتَّرْهِيْبُ». ولكن ، هذا الكتاب فِيْهِ سَيِّئَة ، وهو أنَّه مُمْتَلِئٌ بأحاديث الضَّعِيْفَةوبعض المَوْضُوْعَة ، ولكنَّ الله -عزَّ وجلَّ- اِمْتَنَّ علينا وفَضَّلَنَا -والحَمْدُلله- على كَثِيْرٍ مِن العَالَمِيْن حَيْثُ مَكَّنَنَا مِن مَعْرِفَةِ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ والمَوْضُوْعِ وتَمْيِيْزُهما مِنَ الصَّحِيْحٌ . ولذلك ، قبل أن أُلْقِيَ الدَّرْسَ هَنَاك من «التَّرْغِيْبُ والتَّرْهِيْبُ» أخَرِّجُ الأَحَادِيْثَ التي أنا أَعْزِمُ على إِلْقَائِهَا وشَرْحِهَا شَرْحاً مُخْتَصَراً لِإِخْوَانِنَا . فَأَقْرَأُ عَلَيْهِم فَقَطْ الأَحَادِيْثَ الصَّحِيْحَةَ والحَسَنَةَ ، أمَّا الأَحَادِيْثُ الضَّعِيْفَةُ فأصلي أنا أوقف عنه وأَقُوْلُ لِلْقَارِئِ يُشِيْرُ إِلَيْهَا بِحَرْفِ الضَّادِ عَلَى الهَامِشِ حَتَى فِي المُسْتَقْبَلِ يَكُوْنُ هذا كَمُذَكِرٍ لَهُمْ . هذا يومُ الإثْنَيْنِ ، ويَوْمُ الجُمْعَةِ نَقْرَأ لَهُمْ حَسْبُ المُنَاسَبَةِ والظُرُوْفِ. ثُمَّ نَقْرَأُ لَهُمْ فِي المُدَةِ الأخيرة «الرَّوْضَةُالنَّدِيَّةُ شرح الدُّرَرِ البَهِيَّةِ» للشَّيْخِ حَسن صِدِيْق خان ، واِنْتَهَيْنَا مِنْهُ . فالآن نَقْرَأُ لَهُمْ -بَدَل هذا الكِتَابِ- الرِّسَالَةَ التي سَبَقَ ذِكْرُهَا«التَّجْرِيْدُ التَّوْحِيْدُ» للمَقْرِيْزِي . ونَقْرَأُ لَهُمْ -بَعْد- دَرْساً في مُصْطَلَحِ الحَدِيْثِ ولَكِنَّهُ دَرْسٌ غَيْرُ الدُرُوْسِ التي يَقْرَأُهَا أو يَسْمَعُهَا طُلَابُ العُلُوْمِ الشَّرْعيَّة في المَدَارِسِ الرَّسْمِيَّة -أعني المَدَارِسِ الرَّسْمِيَّة، أعني الشَّرعيَّة ، مش الحَلَقَات- . درس في مصطلح الحديث يَقْتَرِنُ معه التَّطْبِيْقُ العَمَلِيُّ ، يَسْتَخْرِجُ له حَدِيْثاً من أيِّ كتابٍ من كتب السُّنة ونُسَجِّلُه في اللَّوْحِ بسَنَدِه ونُطَبِّقُ ما قَرَأْنَاه من التَّعْرِيْفِ للحديثِ الصَّحيحِ والحَسَنِ والضَّعِيْفِ على هذا الحديث الذي أَمَامَنَا ، ونَتْبَعُ له كتاباً من كتبِ التَّرَاجِمِ ونُسْتَخْرِجُ له تَرْجِمَةُ كُلِّ رَجُلٍ وما قِيْلَ فيه من التَّوْثِيْقِ أو التَّجْرِيْحِ أو التَّضْعِيْفِ . وبذلك ، يكون الدَّرْسُ قَبْلَ كلِّ شَّيْئٍ أَقْبَلُ-أشدُّ قُبُوْلاً- في نفوسِهِم وأشدُّ رُسُوْخاً في قُلُوْبِهِم ، هذا الدَّرْسُ الثَّانِي يكون دَرْسَيْنِ في يومِ الجمعةِ : درسٌ من «التَّجريدِ التَّوحيدِ المُفِيْدِ» والدَّرسُ الثَّانِي في مُصْطَلَحِ الحَدِيْثِ ، هذا في الدمشق . لي كلُّ الشَّهْرِ تَقْرَأُ سَاتِرُها إلى «المنطقة الشَّماليَّة» من سُوْرِيا إلى «حلب» و«إدلب» و«الحفة» و«اللاذقية» .هنا الشَّاهد : بَدَأَتِ الدَّعوة بِصُوْرَةٍ خاصةٍ تَنْتَشِرُ بَعْدَ «حلب» في «إدلب»، وهي تَبْعُدُ عن «حلب» نحو 60 كلم . وكما تعلمون ، يُقَسَّمُ النَّاسَ إلى طائِفَتَيْنِ- سنَّةُ اللهِ في خَلقهِ ﴿...فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[الفتح : 23] - ، فأخذ بعض الغَوْغَاء -يُدَاعِنُهُم بعضُ من يَتَزَيَّ بِزَيِّ العلماء- ، أخذوا يُشَيَّعُون ويُوَزَّعُون أمثال الإِفْتِرَاءَات التي سَبَقَ أن تَحَدَّثَ[عنه] الأستاذ الكريم آنَذَاكَ : فلان وَهَّابِي ، فلان يُنْكَرُ الرَّسُول ، فلان يُنْكَرُ الكَرَمَات ، فلان يُنْكَرُ الأَئِمَة إلى آخر ما هنالك من الإِفْتِرَاءَات. وكانت نتيجة ذلك أن تَقَدَّمَ مفتي «منطقة إدلب» بالمَضَابِطِ العَدِيْدَة إلى المُحَافِظِ في «حلب» ، ثمَّ إلى العَاصِمَة -وهي «الدِّمشق»- ، وهو يَعُود... إلا في المرَّة الأخيرة نجح ، وذلك من طريق مفتي «الجُمهورية السورية» . هذا المفتي–هو قَبْلَ كلِّ شيئٍ- ، حَنَفِيٌ مذهباً مُتَعَصِبٌ جِدًّا ، ومن هنا يَظْهَرُ لكم أنَّه لا يمكن أن يَلْتَقِيَ مَعِي ولا يُمْكِنُنِي البتة أن ألتَقِيَ مَعَهُ . فمُجَرَد ما جَائَتْ [من] المنطقة إليه أنَّ فلاناً يَأتِي إلى «إدلب» كلُّ شَهْرٍ ويَقْضِي فِيْها اللَّيْلَة ثمَّ يَنْتَقِلُ إلى منطقةِ كذا وكذا ، كتب أمراً إلى الوِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة يَطْلُبُ بِمَنْعِ الرَّجُل من التَّدْرِيْسِ . وبفعل أنا اِسْتَجِهْتُ إلى الوِزَارَةِ ، يعني إلى مديرِ الشُّرطةِ ، وقرأ على لِسَانِهِ المَضْبَطَة ومافِيْهَا من الإفتراءات والأكاذيب وشهادة المفتي بذلك وهو يَطْلُبُ أُموراً غَرِيْباًجِدًّا ، ويطلب -قبل كلِّ شيئٍ- منعي من التَّدريس ، ويكتفي بذلك منعي من القسمة العلميَّة، وهذه القسمة العلميَّة . (المداخلة) : ((كذَّابين يا شيخنا)) لا ، ضعيف المفتي هذه ، إذ مش هذا هو ذو علمٍ عندنا، هذا وظيف تكريم -تقريبا- عندنا . وشيئٌ أغرب من هذا ، [أنَّه] يَطْلُبُ من الوِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة نَفْيِي من البَلَدِ إلى المنطقة داعياً . ويَظْهَرُ أنَّ المَسْؤُوْلِيْنَ هناك عُقَلَاءُ ، وهم فَوْقَ من يَطلُبُ مثلَ هذا الطلب في عَقْلِهِم ، فاكْتَفَوا بِتَنْفِيْذِ الأمرِ الأولِ من هذا النصف -وهو المنعُ من التَّدْرِيس- . فلبحثنا الطالب الموظَّف الجدير : القضية هذه تَمْنَعَنِي من التَّدريس ، أنا لَسْتُ موظَّفاً في الدولة ، ولَسْتُ موظَّفاً في الأوقاف ، حتى أُمنعَ من التَّدريس وحتى يكون للمُفتي صوتاً عليَّ . قالوا : ((المفتي له الأمر وهو الموظَّف الرَّسمي وله أن يمنعَ من شاء ويمنعَ ما شاء)) . طيب ، لو آمر الدُّروسَ في المساجدِ ، قد يُقال ((والله هذا معقول)) ، لكن أنا آمر الدُّروسَ في الدار ، لأني أعرف إذا آمرتُ الدُّروسَ في المساجد ، سوف أمنع بالكليَّة من الإسلام . خلاصة القول : بالفعل مُنِعْثُ من التَّدريس لكن-والحمد لله- ما مُنِعْثُ من السَّفر -يعني هذا غض النَّظر عليّ يعني- . ولذلك ، أنا-مع الأسفِ الشَّديد- أقول لكم- مُضْطَرٌّ أن أسافرَ شهراً وأدعَ شَهْرَيْنِ ، لأنَّه إذا سافرتُ ، الغاية هو الإجتماع ، وإذا إجتمعت فالعيون ، وعيون الجماعة -طبعاً- حاضراً، فأريد أن نَتَحَاشَ الإنتظام مع الأمر القَانُوْنِي وحتى أَتَمَكَّنَ من خِفِّ هذه الدَّار . وجرَّ بالأخير أنِّي ذهبت في شهرٍ منذ شهرين ،ففي «الحفة» جَائَتِ الشُّرْطَةُ تطلب أسماء الحاضرين ، كانوا من المجرمين . وفي «إدلب»جاء رئيس المَحْفَظِ يَطْلُبُ قَبْضَ المجلس -وفيه نحوُ نِصْفِ هذا الحلق المبارك-. ولكن -الحمد لله- ، المجلس مُنْقَدٌ واستمَرَّ في البحث فيه ونصرة للشَّعب حتى ساعة12.00 تقريباً ، ولكن لا أزال بالثيقة القنونية ممنوعاً من التَّدريس في البيوت ، مش في المساجد ، مش في الحفل العام كهذا الحلق المبارك . ولذلك ، نحن في الحقيقة -أقول مرة أخرى- نَوضِيفُكم على أنَّكم تَسْتَطِيعُون أن تجتمعوا بِصَرَاحَةٍ وتُوْزِيعُ الحق إلى أبعد المكان ممكن أن يصلَ إليه صوتُ الحقِّ وأسأل الله -عزَّ زجلَّ- أن يرفعَ عنَّا ذلك القيد ،حتى نَسْتَطِيعَ أن نَحْذُوَ حَذْوَكُم ونَسِيْرَ سَيْرَتَكم . ولعلَّ في هذا القدر الكفاية ، واللَّيل -طبعاً اللَّيل والنَّهار- شديد الحرِّ ، فحسبي أنَّنِي ألتَقِي بكم ونحن على عقيدةٍ واحدةٍ، وعلى مشربٍ واحد . وإخواننا -طبعاً- هناك جميعاً يُبَلِغُونَكم السَّلام للمُسْلِم السَّلفي النَّقِي الطَّاهر . وسلام الله ورحمته وبركاته عليكم .

 ________________
 [1] ثمَّ كتب الشيخ رسالةً المسمَّى بـــ «خطبةالحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه» ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ط1 ، الرياض / المملكة العربية السعودية . ذكر فيها طرق هذه الخطبة وألفاظها من مُختلف كتب السنة المطهرة . فليراجع . [2] كان الشيخ يذكر هذا الحديث بهذا اللفظ في غير موضعٍ –كما هو في «سلسلة الهدى والنور : ش / 060» مثلا- ، فبحثت عن الحديث بهذا اللفظ ولم أفلح . ورواه الترمذي (5 / 278 : رقم 3095) : عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ . فَقَالَ : «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ» ،وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة : 31] ، قَالَ : «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» :قال الترمذي : «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالسَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، وَغُطَيْفُ بْنُ أَعْيَنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الحَدِيثِ» ، لكن حسنه العلامة الألباني –رخمه الله- . [3] رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (3 / 141 : رفم 1666) ، ذكر الحافظ البوصيري في كتابه «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» (3 / 193 : رقم 2529) أنَّ اسناده صحيح . [4] رواه البخاري (2 / 146 : رقم 1585) : ((لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم قريشا استقصرت بناءه وجعلت له خلفا)). ورواه مسلم (2 / 969 : رقم 1333) : ((لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة ألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة)) . ورواه غيرهما .

 الخاتمة
المتكلِّم 2 : سمعتم إلى هذه الكلمة الطيِّبة التي ألقاها الأخ المُحَدِّث السَّلَفِي الجليل ، الشَّيخ محمَّد ناصر الدِّين الألباني ، محدِّث الدِّيار الدِّمشقيَّة . وما أظُنُّكم إلَّا قد أخذتم كأنَّما كنتم تَعِيْشُون مع الأخ منذ زمنٍ طويلٍ ، وما أظنُّ أيضاً إلَّا أنَّ الأخ قد أَخَذَ أنه يَعِيْشُ معكم منذ زمنٍ طويلٍ . وهكذا الإسلام الصَّادق ، رَحِمٌ قَوِيٌ بين أهلِهِ ، بل هو أقوى الأرحام بين المسلمين جميعاً . لا يُفَرِّقُ بين مسلمٍ ومسلمٍ دارٌ ولا وطنٌ ولاصحراءٌ ولا سنٌ ولا غير ذلك ، ما داموا نلتقوا جميعاً على كتاب الله وسنَّةِ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسّلام- . وأقول لأخي الكريم : نعم ولله المنَّة ولله الفضل الكبير أنَّنا -هنا في القاهرة- نَنْشُرُ دعوةَ اللهِ بحريَّةٍ تامةٍ كاملةٍ ، نسير هنا وهناك ونكتب ونخطب ، ونجد الأمن -بالحمد لله ربِّ العلمين- في كل مكان ، لا يَقِفُ في طريقِنَا عقبةٌ إلَّا هذه الشَّائعات المفتريات التي يُشِيْعُهَا عُبَّادُ الأوثان، وهي ليست بعقبات إن شاء الله . أمَّا الإدارة ورجال الإدارة وغيره وغيره ، كلُّهم في دعوةِ اللهِ وفي خدمة وفي سبيل الله ربِّ العلمين . نَسِيْرُ في كلِّ مكان ونكتب ونخطب بحريَّةٍ تامةٍ مكفولةٍ . ونسأل الله أن يَهِبَ لكم هنالك أيضاً ذلك الخير والسَّير الأمين بإذن الله. وفَّقنا الله وإيَّاكم إلى ما يُحِبُّهُ ويرضَاهُ والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته . العلّامة عبد الرحمن الوكيل : بسم الله ، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، فالحقُّ أني سَعِدْتُ اللَّيْلَةَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً ، بِلِقَائِي الأخ ناصر الدِّين الألباني . ومَرَّةً أخرى ، حيث تَعَرَّفْتُ عليه بالغيبِ ، وقد تَعَرَّفْتُ عليه في مكةَ المُكَرَّمَةَ إذ حَدَّثَنِي عنه أخوكم الشَّيخ نسيب الرفاعي رئيس أنصار السُّنَّة في «الحلب» ، وحَدَّثَنِي عن شِدَّةِ بَلَائِهِ وعن قُوَّةِ يَقِيْنِهِ وعن طُهْرِ قلبه وعن زكاةِ نفسِهِ وعن قوَّةِ إرادتِهِ وعن وقوفِهِ في مَيْدَانِ الحَقِّ مُكَافِحاً ومُجَاهِداً لأولائك الذين يجعلون من أَنْفُسِهِم جُنُوْداً للشَّيطان يُحَارِبُوْنَ جنودَ الرَّحمن ، ولكنَّه غَلَّبَ بإذن الله . لمن يَنْصُرُوْنَ سُنَّةَ رسولِ اللهِ -صلوة الله وسلامه عليه- ومهما اشتدَّت البلاء ومهما زادت الكرب- ، فإنَّ اللهَ ناصره وإنَّ الله -بإذنه- مؤيده وإنَّه مُؤَجِلُهُ ومُؤَخِرُه. عرفته في أخباره وفي بلائه ، وعرفته -أيضاً- في كتابِهِ . فقد بَدَأَ في تَألِيْفِ كِتَابٍ عن سِلْسِلَةِ الأحاديث الضَّعيفة والموضوعة، فقد قرأت أول نسخةٍ منه واِسْتَفَدْتُ منه كثيراً ، وأسأل الله أن يُعِيْنَهُ على إتمامِ تأليفِ هذا الكتاب ونشره بما فيه من الخيرِ والبركةِ . نعم ، تَعَرَّفْتُ عليه بالغيب وها أنا ذا أَتَعَرَّفُ عليه عن القُرْبِ . نعم ، أَحْبَبْتُهُ عن بعدٍ ، وها أنا ذا أُأَكِدُ الحب له عن كسبٍ . وها أنا ذا -أيضاً- أَتَعَرَّفُ عليه وأُعَرِّفُكم به ، ونَتَعَرَّفُ -جميعاً- عليه لأنَّنا أُمِرْنَا أن نَتَعَرَّفَ ، وكيف لا تَعَرَّفُ مع من أَحَبَّهُمُ الله إذ أَحَبُّوا الله فَاتَبَعُوا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- . نعم ، كلُّنا ناصرٌ للسُّنَّة وكلُّنا مُدَافِعٌ عن التَّوحيد ، لمذا ؟ لخير البَشَرِيَّة . لمذا ؟ لمصلحة الإنسانية . لمذا ؟ لسعادةِ الدُّنيا . لمذا ؟ لرَغَبِ العَيْشِ . لمذا ؟ لنِعْمَةِ الحياةِ . فلم تَنْعَمَ الحياة ، ولم تَسْعَدَ الدُّنيا، ولم تَتْمَإِنَّ البَشَرِيَّة ، ولم تَهْدَأَ الإنسانيَّة إلَّا إذا اتَّجَهَت إلى التَّوحيدِ إلَّا إذا اتَّجَهَت إلى اللهِ وَحْدَهُ تَعْبُدُهُ فتَأْخُذُ حَظَّها من كتابِهِ وتَتَبِعُ رسولَهُ وبذلك تَتْمَإِنُ القلوبُ وبذلك تَهْدَأُ النُّفوسُ وبذلك يَسْتَرِيْحُ البَدَنُ وبذلك تَسْتَقِرُّ الحالُ وبذلك تَقِرُّ الأمن ويَسُوْدُ النظام. فإن كان لأمةٍ أو لحكومةٍ أو لدولةٍ هَدَفٌ في أن تَنْشُدَ السَّلام ، فلا بدَّ لها أن تَرْجِعَ إلى كتابِ اللهِ تَسْتَفْتِيْهِ وإلى رسولِ اللهِ تَسْتَهْدِيْهِ . فليس هناك أن يطوحَ الدولة أو أن يطوحَ الأمة أو أن يُعشَّع. إنَّكم تَشْكُون اليومَ من الحوادث ، إنَّكم تَعْلَمُون، إنَّكم تَفْجَعُون ، ففي كلِّ يومٍ قتل ، وفي كلِّ ساعةٍ فضيحة ، وفي كلِّ لحظةٍ تمزيق للشَّرع وهتك للعرضِ وفساد في الأرضِ . والحُكُومَةُ تَشْتَكِي والأمَّةُ تَبْكِي والشَّابُكلُّه يخدن ويبدع من تلك الحوادث ، ما السَّبيل إلى مَنْعِهَا ، ما السَّبيل إلى درعِهَا، ما السَّبيل إلى القضاءِ عليها : أن تُوقِظَ الضَّمير ، وأن تُوحِيَ القلوب ، وأنتَبَرْوِيَ بذُروةِ الإيمان ولا ريح بذروة الإيمان إلَّا من كتابِ اللهِ وإلَّا من سُنَّة رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- . لذلك ، يُحَدِّثُنا رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- عن القرآن فيجعله أو يُصَوِّرُه بالماء فيقول : ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً ...))[1] مع مثَّله بالماء ، لأنَّ القرآن والماء ينزلان من السماءِ . نعم ، تبَّعه بالماء ؛ لأنَّ الماء ينزل الغيث على الأرض ولأنَّ القرآن ينزل الغيث على النفس والقلب . نعم ينزل على النفس والقلب فيُحْيِ مَوْتَهُمَا، ويبعث فيه من الحياةِ من الجديدِ ، ويوقظُ الضمير، ويفتح العيون الأعمي ، ويفتح الأذان الصمّ ، ويُرَقِقُ القلوب الغلف . ثم يجعل من فوق النفس عقلاً ويجعل من فوق العقل قلباً ويجعل من فوق القلب ضميراً ، وكلمَّا دفعت النَّفس إلى شهوةٍ أو إلى لَذَّةٍ أو إلى غرضٍ من أغراضِ الدُّنيا كان الأصل من فوقِهَا رقيباً ، فإن ضَيِّقَت على الأصل وركَبَته كان القلب من فوقهما حَسِيْباً فإن كان القلب أيضاً غافلاً كان الضمير مُتَيَقِظاً ولا يُوقِظُ الضَّمِير ولا يُطَاهِرُ القلب ولايُزَكِي النَّفس لا ... ولا قانونٌ ولا شمسٌ ولا سواءٌ . إنَّما يوقظ الضَّمير الذي خلق الضَّمير ، إنَّما يزكي النَّفس والقلب : الله لا إله إلَّا هو الحيُّ القيوم. فاتقوا الله في أنفسكم وأسلكوا أمثلة رسولِ اللهِ، يبعثون في القلوبِ حياةً كريمةً من جديدِ ، حياةً لا تعرف الجريمة ، حياةً لا تعرف الفساد ، حياةً لا تعرف إلَّا الخير تَنْدَفِعُ إليه وتَنْدَفِعُ بكليَّتِهَا بكلِّ مسائلها وبكلِّ أحاسِيْسِهَا نَحْوَ الخيرِ ونَحْوَ البرِّ ونَحْوَ الحقِّ ونَحْوَ الصدقِ ونَحْوَ السَّعَادِةِ ونَحْوَ العناءِ ، فلن تَسْعَدَ الأمَّة ولن يَسْتَقِرَّ العين ولن يَسْتَقِبَّ النِّظام ولن يَتَحَقَّقَ الغرد ولن يَسُوْدَ السَّلام إلَّا إذا حَقَقْنَا كتابَ اللهِ وإلَّا إذا حَكَمْنَا الوَاحِدُ الدَّيَانُ . والسَّلام عليكم ورحمة الله .

 ________________
 [1] رواه البخاري (1 / 27 : رقم 79) : ((مَثَلُ مَابَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ،فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَتُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَابَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)) . ورواه مسلم (4/ 1787 : رقم 2282) : ((إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى، وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَ االنَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)) .

 المصدر موقع ارشف الالباني رحمه الله تعالي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة