الحج في الإسلام الشيخ العلامة عبدالظاهر أبي السمح رحمه الله تعالى

الحج في الإسلام

الشيخ العلامة عبدالظاهر أبي السمح رحمه الله تعالى 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا".

فالحج أحد أركان الإسلام الخمس التي فرض الله على عباده أداءها. وما كان الله جل وعلا ليفرض على عباده شيئًا من العبادات لحاجته إليها؛ كلا بل هو الغني الحميد: وإنما فرض العبادات على بني الإنسان تشريفًا لهم وتكريمًا ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾ [الفرقان: 77] وفي الحديث القدسي الصحيح "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً".

ومن العبادات ما جعله مكررًا في اليوم والليلة، ومنها ما جعله كل أسبوع كصلاة الجمعة، ومنها ما جعله كل عام مرة كالصيام، ومنها ما جعله في العمر مرة كالحج. ولكل من العبادات حِكم ومنافع ومصالح للعباد، يحتاج كل منها إذا شرحناه وفصلناه لمجلد ضخم؛ ولكنا نتكلم على ما للحج من الحكم والفوائد السياسية والاقتصادية والروحية والجسمية. وغير ذلك إن شاء الله بمناسبة أشهر الحج وموسمه القريب.

لما ظهر الله تعالى بصفاته العليا، وأسمائه الحسنى، لخلقه، واحتجب عنهم بذاته، أمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتًا في مكان من أرضه، بعيدًا عن زخارف الدنيا وزينتها، محاطا بالجبال، قحلا من الزروع والثمار، لا ماء فيه ولا شجر، ولا بساتين ولا أنهار؛ فبناه مطيعًا أمر ربه، مخلصًا له العمل، وكان ابنه إسماعيل هو وحده مساعده ومعاونه حتى أتماه؛ وطافا حوله، وصليا شطره، ودعوا الله عنده. قال تعالى ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 127- 131].

وقد أخبر الله تعالى أن هذا البيت الكريم الذي بناه بأمره خليله إبراهيم هو أول بيت وضع للناس فقال عز من قائل ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا ﴾ [آل عمران: 96- 97].

وقد أمر خليله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الناس إلى حجه فقال ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 27- 28] وقد فعل إبراهيم عليه السلام وصدع بأمر ربه، وأذّن حتى أسمع الله أذانه كل من شاء له أن يحج إلى يوم القيامة.

أما المنافع التي ذكرها الله تعالى في قوله ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ فهي كثيرة جدًا.

ونحن نقص عليك منها ما ييسر الله وما يفتح به.

المنافع الروحية:
كل محب يشتاق دائما لرؤية حبيبه ولقائه، ويحب زيارته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن عز الوصول إليه؛ وتعذر عليه لقاؤه ورؤيته، تسلى برؤية آثاره. والأشعار في ذلك كثيرة، منها قول بعضهم:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى ... أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي ... وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا

ويقول آخر:
يــا دارَ مَــيّــةَ بــالــعَــلــيْــاءِ فــالــسَّــنَــد ... أقْــوَتْ وطَـــالَ عــلــيــهــا ســالــفُ الأَبَدِ

وقول ابن الدمنية:
سلي البانة الفنَّاء والأبطح الذي ... به الماء، هل حييت أطلال دارك؟   

وقوله:
عُجنا على دارها نبكي، ونسألها  ... عنها ونسألها عن بيننا خطبا   
دار لأسماء إذ حن الفؤاد بها
...  ولا تُنوّل إلا الشوق والطربا 


وإذا كان الشعراء وغيرهم من المفتونين بحب الصور الجميلة يتغنون بوصفها ويذهبون فيحبها مذاهب العبودية، فالمؤمنون أشد حبًا لله، وهم أحرص الناس على رؤية بيته؛ والقيام في مقام خليله عليه السلام، والطواف حوله حيث طاف أنبياؤه وأولياؤه الصالحون، وعباده المتقون. فإذا رأى المحبون لله بيت ربهم فلا تسل عن أنهار دموعهم كيف تجري؛ ولا عن حميم أشواقهم في أجسامهم كيف تسرى، فهنالك عند بيت ربهم ومعبودهم الواحد الجليل الكبير الكريم يقفون على بابه وقد علا نحيبهم، ورفع لسان الحال صحيفة ذنوبهم، وسجل حوائجهم، فما ينصرفون إلا بتوقيع المغفرة، وقضاء مطالبهم، ولولا ثقل الأجسام لطارت النفوس منها إلى الرب جل جلاله شوقا إليه، وحبًا له. إنها لا تشبع من رؤية بيت الحبيب ولا الطواف حوله؛ ولا الوقوف على بابه، وأنها لتشعر بأنوار تغمرها، وسرور يهزها، وفرح يذهلها عن كل شيء إلا عن ربها وبارئها. ومهما أوتي البلغاء من قوة البيان فهم عاجزون عن وصف ما تجده النفوس المؤمنة بربها عند بيته والطواف حوله.

ولما اقتضت حكمة الله أن يحتجب عن خلقه؛ وعلم ما يكون بهم من شوق إليه وحب له؛ جعل له بيتًا حيث شاء من أرضه، وقال لخليله إبراهيم عليه السلام ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ أليس في هذا من الشرف العظيم للطائفين والعاكفين والركع السجود ما يسلي عن الدنيا وزينتها، وملكها وزخارفها؟.

الله أكبر:
يأمر الرب جل جلاله خليله أن يطهر بيته لوفود بيته. وزوار حرمه: الطائفين والعاكفين فيه والركع السجود، يا له من كرم إلهي؛ ويا لها من عناية ربانية.

يطوف العبد حول بيت ربه وقد ملأ الأنس به قلبه، وزكت روحه، يمثل بهذا الطواف سبع مرات فعل المحتاج المضطر، والفقير الملح؛ وكأنه يقول: مالي عن رحابك منصرف، ولا عن بابك تحول حتى تقبلني؛ وتتوب عليّ وتغفر لي، وترضى عني، ولئن لم تقبلني فمن غيرك يقبلني؟ وإن لم تغفر لي فمن سواك يغفر لي ذنبي، ويقيل عثرتي، ويمحو زلتي، والله يحب الملحين في السؤال والدعاء.

ثم يقف في مقام خليله فيصلي ركعتين بسورتي الإخلاص [قل يا أيها الكافرون - وقل هو الله أحد] ثم ينصرف فيستلم الحجر الأسود، وكأنه بهذا الاستلام عاهد ربه، وصافح يمينه - وكلتا يدي ربنا يمين - سبحانه عن سمات المخلوقين.

ثم يخرج إلى الصفا فيذكر الله تعالى ويدعوه، ويسعى إلى المروة، ذاكرًا لله تعالى داعيًا سبعة أشواط؛ فيتذكر بذلك سعى هاجر أم إسماعيل عليهما السلام حين كانت راغبة إلى الله وحده، ضارعة إليه، راجية أن تجد ماء لري ظمئها وظمأ ابنها، وقد كادا يهلكان، فما كادت تفرغ من سعيها ودعاء ربها حتى أنبط الله لهما الماء بجانب البيت، فشربت وسقت ابنها، وحمدت الله تعالى.

ونحن في حجنا نمثل "هذا الدور" وما كانت سيدتنا هاجر المصرية أم إسماعيل عليه السلام في حاجتها واضطرارها إلى الماء؛ بأحوج منا والله ولاسيما في هذا الزمن إلى قطرات من رحمته يطهر بها نفوسنا، ويشفى أمراضنا الخلقية والاجتماعية التي أودت بنا، وجعلتنا عمالا للدول المستعمرة، وخدمًا لعلوج الأعاجم.

فهذا الطواف والسعي بين الصفا والمروة المقصود منه ذكر الله تعالى، ولو لم يكن في ذلك السعي إلا طاعة الله ورسوله والتأسي بخير الخلق، لكفى.

وفي يوم التروية يخرجون إلى منى فيبيتون فيها، ويصبحون آمّين عرفات، بعد طلوع الشمس، وإن ورود الناس إلى هذا الموقف، واجتماعهم محرمين، متجردين من كل شيء، إلا ما حمارا من زاد؛ ووقوفهم عارية رؤوسهم، ضاحين في الشمس، يدعون ربهم تضرعا وخفية، على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم وأجناسهم - لمذكر بيوم الحشر، وماح ما بينهم من فوارق؛ ومعيدهم إلى بساطتهم الأولى؛ وباعث فيهم روح المحبة والمودة؛ فإن اتحاد الناس في عمل ما، له تأثير في النفس يعرفه العلماء، فكيف إذا كان اتحادًا في عبادة معبود واحد؛ في زي واحد، وقول واحد؛ في مكان واحد؟ لا ريب أنه يكون له أعظم تأثير في تنمية العواطف الدينية والمحبة الملية التي هي فوق كل محبة ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].

فهنالك في هذه المواقف ترى معنى هذه الأخوة، ويشعر بها كل مؤمن ذاق حلاوة الإيمان. ولهذا لما علم الإفرنج فوائدها الروحية والاجتماعية عملوا على تكثير العقبات وبثها في طريق المسلمين للحج - من دون الناس، ودون سائر الطرق.

ولم يكن إبليس في يوم أغيظ منه في يوم عرفة، لما يرى من اتجاه المسلمين كلهم إلى خالقهم يرجون رحمته؛ ويدعونه راغبين فيما عنده من مثوبة، وقد تجلى تعالى، ونزل إلى سماء الدنيا وباهى بهم الملائكة، وقد طهرهم من ذنوبهم التي طالما دنسهم بالوقوع فيها شياطينهم، فعادوا فرحين مستبشرين.

وما هي إلا برهة يسيرة حتى وافوا مزدلفة؛ فحطوا فيها رحالهم، وجمعوا بين صلاة المغرب والعشاء، وباتوا بها ليلتهم، حتى إذا اقترب الفجر قاموا وتطهروا وصلوا الصبح ودعوا ربهم؛ وناجوه بكل مطالبهم، وجمعوا جمراتهم، وهي حصيات دون البندقة وفوق الحمصة. ثم قاموا إلى منى قبل طلوع الشمس، ورموا جمرة العقبة.

وفي هذا من المشاق السهلة ما يمرن على جهاد الأعداء، والنزول منازل الأبرار الأتقياء، وأن الدنيا هكذا: حل وارتحال.

وفي رمي الجمار معنى سامٍ، وذلك أنه رمز لرمي الشيطان الرجيم وإهانته، وفيه دليل عملي على الزهد في الدنيا وكراهيتها والإقبال على الآخرة. وقد كنت أسمع من عوامنا في الأرياف إذا أراد أحدهم مفارقة أحد واليأس منه "رمينا طوبته" ونفضنا يدنا منه، ونحو ذلك، فرمي الجمار فيه هذا المعنى.

ومعنى آخر: وهو تعليم الجهاد والحث عليه، فإن الحروب كلها مبنية على الرمي، من عهد بدء الخليقة إلى اليوم؛ ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا".

ولما كان كيد إبليس ضعيفًا، وقال الله فيه ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾.

قد عرض في هذا الموقف لإبراهيم عليه السلام حين أمر بذبح ابنه، لم يرد أن يرميه إلا بهذه الحصوات الصغيرات احتقارًا له ، وعدم عناية به.

وبعد هذا الرمي لجمرة العقبة يوم النحر يحلق رأسه، ويذبح هديه، ويلبس ثيابه، ثم يذهب إلى بيت ربه فيطوف به كما طاف أول مرة؛ ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن سعى أولا، وإلا فيكفيه السعي الأول لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

فما تجد الأرواح المؤمنة لذة في عمرها أحسن ولا أفضل من هذه اللذة التي وجدتها في عبادة ربها تلك الأيام عند بيته المشرف؛ وتلك المشاعر العظيمة.

وأما الفوائد الجسيمة فلا ريب أن العمل والسفر والحركة يزيد الجسم قوة ونشاطاً؛ وحسب الإنسان شعوره بأن هذا النصب في رضا المحبوب الأعلى.

المجلة
السنة
العدد
التاريخ
الهدي النبوي
الأولى
الثامن
ذو القعدة سنة 1356 هـ


منقول من شبكة الألوكة 






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة